مؤتمر غروزني والوهابية
أحمد يحيى الديلمي
إذا صدقت الرواية التي تقول أن الإمام يحيى حميد الدين رفض عرض إيطاليا أن تمده بالسلاح خلال حربه مع السعودية بداية العقد الرابع من القرن المنصرم وأنه أطلق مقولته الشهيرة ” لن استعين بكافر على مسلم لو نازعني أبن سعود العمامة التي على رأسي ” مع اختلاف الروايات في سياق المقولة ومفرداتها المعنى واضح دل على معاني الأخوة في الدين وما تفرضه من التزامات تجاه المسلم الآخر وتبرز معانيها عند حدوث الخلافات . هذه الصورة تؤكد الانتماء الصادق إلى مدرسة ومنهج الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ، ومواقفه الحازمة التي أكدت الاندماج الصادق مع الدين والحرص أشد الحرص على سلامة كيانه ولو أقتضى الأمر تقديم تنازلات عن مكاسب ذاتية مهما عظم شأنها كما جاء في قوله عليه السلام ” لأسّلمن ما سلمت أمور المسلمين ” وموقفه الصارم من أحد أنصاره في حرب صفين فلقد سمع هذا النصير يشنع بأشخاص من الطرف الآخر وينعتهم بالكفر فالتفت إليه غاضباً وزجره بقوة قائلاً ” توقف عن هذا الكلام إنما هم إخواننا بغوا علينا ” .
هذه المدرسة وهذه الثقافة المجسدة للعظمة والشموخ والكبرياء كانت هي النموذج السامي لمعيار الانتماء للعقيدة الإسلامية ومنهجها العظيم الذي يحمل مقومات النجاح والانتشار في ذاته فلقد حتم على المسلم أن يعيد هيكلة نفسه ويغير خارطة حياته باتجاه سام يوقف جموح الرغبات والأهواء ويلجم عواطف الأنا هذه الثقافة هي التي توهجت نوراً أضاء للأجيال طريق العزة والكرامة ومنها أستقى الإمام يحيى موقفه وعززه برؤية أخرى دلت على سلامة الطوية وعدم الانسياق لرغبات ومخططات الأعداء عندما قال لمن انتقدوا رفضه العرض الإيطالي ( هل تريدون أن تتحول بلادنا إلى ساحة صراع دائمة تمكن الإيطاليين والبريطانيين من تصفية حساباتهم على أرضنا ) يا لها من رؤية ويا له من تفكير سليم كونه صدر في ذلك الزمن الموسوم بالتخلف فذلك يعني أنه لم يأت من فراغ ، بل يعبر عن هوية متأصلة في النفوس مرجعها قول الله سبحانه وتعالى ” ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار ” وغيرها من الآيات والأحاديث التي تنهى المسلم عن موالاة الكفار والاستعانة بهم على مسلم آخر . هذه التعاليم جسدها الإمام علي عليه السلام في الواقع العملي طوال أيام حياته وطلب من أنصاره وأتباعه فهم معانيها وتحويلها إلى مرجعية حاكمة للسلوك والممارسة .
هذا الأمر أختلف كلياً مع الحاضنة التي تشكلت منها الهوية الثقافية للفريق الآخر الذي صب العداء للإمام علي وأتباعه ومن تناسل من أهل بيته الشواهد والأدلة على انحراف وضلال هذا الفريق كثيرة تزخر بها كتب التاريخ من معاوية بن أبي سفيان إلى حكام آل سعود ومشائخ الحركة الوهابية ، وفقاً للمشهد الماثل اليوم وما يمثله من حقد وفجور لا تمانع معه السعودية من الاستعانة بالشيطان ، لا أعتقد أننا بحاجة إلى استعراضها وسنكتفي بذكر التداعيات البشعة التي ترتبت عليها حيث أدت إلى:
• تناسل أنظمة سلطوية حولت الإسلام إلى طقوس عبادية ومفردات مبهمة وظفت المنهج لتبرير بقاء سلاطين الجور و الظلم وحكم المسلمين بقوة الحديد والنار .
• هيمنة المصالح بدوافع غريزية بمعانيها الذاتية فأصبحت معياراً وحيداً للتفاضل ومن ثم تشكلت علاقة مشبوهة بين سلطات الحكم والطبقة المتحكمة في الاقتصاد فانقسمت الأمة إلى طبقتين :
الأولى : لديها وفرة مالية إلى حد التخمة حتمت الانغماس في السفه والمجون والإيغال في كرامة وأعراض المعدمين الجياع .
الثانية : ملايين الفقراء المعدمين كان من السهل على الطبقة الأولى استغلال فقرهم للتأثير على مشاعرهم ورسم خارطة أحلامهم باتجاهات تفرض الصمت والغياب والارتهان إلى أفكار لا يفك رموزها سوى سدنة الدين أصحاب الضمائر الفاسدة .
• أخيراً وهو الأهم تبني ودعم حركات نشاز تدعي الانتماء للإسلام والرغبة في الانتصار لقيمه باستهداف عامة المسلمين بدعوى الانحراف عن منهج الدين والرده فأصبحوا كفاراً دماؤهم و أعراضهم وأموالهم مباحة ، قتالهم جهاد في سبيل الله والغلبة عليهم فتوحات عظيمة تصاف إلى أمجاد وتاريخ الإسلام .
ما أسلفت يقدم إجابة واضحة على من هاجموا مؤتمر غروزني الذي أعتبره خطوة إيجابية هامة كشفت عن التناقض الصارخ بين تراث ومنهج أهل السنة وبين ممارسات وفتاوى علماء الوهابية ، الأخيرة مثلت أفكاراً شاذة مجردة من قيم الدين وأخلاق العقيدة وكل الأعراف والمبادئ الإنسانية وكم أتمنى أن تستمر هذه الظاهرة تنعقد كل عام لمراجعة المنهج وفضح الشوائب التي علقت به برمته السني والشيعي ، فأننا وأن كنت قد تحدثت عن الثقافة الأولى فأنا لا أقصد تزكيتها فهي أيضاً دخلت عليها أفكار الغلو والتطرف والخزعبلات وبحاجة إلى تمحيص وإعادة تقييم إنما أعتبر الثقافة الثانية الأكثر خطورة على الإسلام إذ يكفي أنها سهلت على الحركة الصهيونية العالمية عملية الاستهداف لمنهج الإسلام واعتباره مصدر للإرهاب . أي أن فكرة تأهيل الإرهابيين ثابتة في اصل المنهج هنا تبرز الهوة العميقة بين الثقافتين فالأخيرة التي انتهت إلى الحركة الوهابية أصابت الإسلام والمسلمين في مقتل وهو ما يجعل يجعل مؤتمر غروزني مجرد خطورة أولى لتصحيح مسار العقيدة والدفاع عنها والمطلوب أن تتكاثف هذه الجهود وتبحر في أسفار الماضي بغثه وسمينه والتعاطي معه بأفق إيماني هدفه الأول والأخير الانتصار لمنهج العقيدة وتصحيح مساره على كافة المستويات .