السلام عليكم .. من صعدة (3-4)
أحمد يحيى الديلمي
جامع الهادي أول صرح علمي
يعتبر جامع الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين عليه السلام أهم معلم في مدينة صعدة كأقدم صرح علمي وجوهرة حضارية ومركز إشعاع فكري اختطه الإمام من أول وهلة حط فيها بالمدينة ، ولم يقتصر اهتمامه على الجانب التعبدي وإيجاد موضع لإقامة الصلوات المفروضة لكنه أهتم أكثر بالدور الرسالي وتحويله إلى صرح علمي كبير يستقبل طلبة العلم من أنحاء اليمن ومن خارج اليمن بالذات المناطق المتاخمة مثل نجد والحجاز .
منهج التدريس في الجامع :
مع أن الإمام الهادي أقتفى أثر الإمام زيد بن علي عليه السلام إلا أنه استفاد من أهم قاعدة ميزت المذهب الزيدي عن غيره من المذاهب بأن أبقى باب الاجتهاد مفتوح وحث أتباعه من يصل منهم إلى درجة تؤهله لذلك أن يجتهد وهو ما جعل الإمام الهادي يقدم إضافات جليلة وهامة إلى أصول المذهب مما جعل الآخرين يعتبرون ما توصل إليه أصول المذهب جديد أطلقوا عليه ( الهادوي) نسبة إلى المجتهد مع كل ذلك أتسم منهج التدريس في الجامع بالوسطية والاعتدال والقبول بالآخر القابع في مذهب أخر فكانت البداية التي أسست لثقافة فكرية متنورة انتقلت إلى كل هجر العلم التي انتشرت في مناطق عديدة في اليمن وكان معظم من تولوا أمر التدريس فيها من خريجي جامع الهادي بصعدة لأن الإمام وفر كل مقومات الاستقطاب ببناء سكن لطلبة العلم وأوقف أموال طائلة للإنفاق على الطلبة والمدرسيين و جعل أوقاف وإدارة الجامع مستقلة عن الدولة لضمان استقلالية منابع العلم وبقائها بعيداً عن التجاذبات السياسية أو توظيف واستغلال الحكام .
وتقول الروايات إن عائدات الأوقاف كانت تفيض عن نفقات الجامع واحتياجات طلبة العلم فتوظف لخدمة جوامع أخرى ما يدلل على الاستقلالية وأنها ظلت متوارثة إلى زمن قريب الرواية التي تقول أن الإمام يحيى في أول حكمه أفترض مبلغ كبير من أوقاف الهادي لتسيير أمور الدولة وإعادة بعد ذلك .
هذا الأمر يؤكد موضوع الفائض النقدي والاستقلالية معاً . وهي أهم الشروط المطلوبة لأي حاضنة علمية هدفها لا يخرج عن الرغبة في إيجاد العلماء المؤهلين لخدمة العقيدة وتبصير الناس بأمور دينهم ودنياهم إذ أن المنهج وضع الشؤون الدنيوية في صدارة اهتماماته ، باستحداث صيغة متوازنة لمفهوم الدولة والمواطنة قوامها واحدية المشروع الإسلامي استناداً إلى قاعدة (لا إله إلا الله محمد رسول الله) أعظم كلمات تنطق بها اللسان كأهم صك يقطعه الإنسان يؤكد على اعتناق الإسلام والدخول تحت مظلة توحيد الخالق سبحانه وتعالى والإيمان المطلق برسالة النبي الخاتم محمد صلى الله عليه وآله وسلم واعتبار المذاهب الإسلامية مدارس إشعاع لإثراء فكر العقيدة واستنباط الأحكام من المصادر الصافية المجردة من الأهواء أو التي توظف نصوص العقيدة لخدمة نزوات الحكام وإن تعارضت مع منهج العقيدة عبر تأويل النصوص بشكل مغلوط ومقتضيات منغلقة جامدة منعت التفكير السليم وإعمال العقل وعطلت الاجتهاد وأخذت بظاهر النص القرآني بما ترتب على ذلك من انحرافات واختلالات ذهنية مست جوهر العقيدة وأظهرت العداء المطلق للثقافات الإسلامية الأخرى المخالفة فحولت الإسلام إلى لائحة محرمات وسيف مصلت على رؤوس المسلمين قبل غيرهم ، اهتمت بطقوس العبادة وأهملت القواعد المنظمة لحياة الناس مثل آليات نظام الحكم وقو اعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
هذه الاختلالات التي كانت سائدة أو التي تناسلت فيما بعد منحت فكر الزيدية واجتهادات الإمام الهادي إلى الحق مميزات خاصة تمثلت في :
1- الأخذ بمبدأ العدل والتوحيد .
2- إقرار قواعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجعل مبدأ الخروج على الحاكم الظالم قاعدة من قواعد المذهب .
3- التركيز على مبدأ الجهاد بأصوله الثابتة في منهج العقيدة .
4- التحفيز على الاجتهاد وبقاء الأبواب مفتوحة بمصاريعها .
5- القبول بالآخر المخالف المسلم والأخذ برواياته وأفكاره واجتهاداته إذا لم تتعارض مع نص قطعي الدلالة والثبوت ، هذه الصورة واضحة وثابتة لا يمكن لأحد أن يجادل حولها فهي ثابتة في كل كتب علماء الزيدية الزاخرة بروايات وأقوال فقهاء وعلماء المذاهب الأخرى ويتم ترجيحها أحياناً على مصادر واجتهادات علماء المذهب وهي دلالة واضحة تدل على الانفتاح والتسامح وتؤكد أن أتباع هذه المدرسة العريقة لا هم لهم سوى البحث عن الحقيقة والاستدلال على مصادر الثبوت المشتملة على صفات الصحة والسند إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يهم أن كان الراوي من مذهب مخالف أي أن الهدف والغاية خدمة العقيدة لذاتها هذه الأبعاد الروحية والصفات الإيمانية والقيم الإنسانية جعلت هذه الثقافة والفكر محور هام لإشاعة أجواء التسامح المذهبي والتآلف بين كل اليمنيين ووحدة دور العبادة بين أتباع المذاهب إلى أن غدا الواقع الاجتماعي والسياسي متجانس نتيجة التعاطي السليم مع الأحكام والتكاليف العبادية بحيث أصبحت موجهة للسلوك الفردي والجماعي غرستا في الإنسان قيم المحبة والتآلف والتسامح وجعلت التقوى والورع والزهد أساس الاستقامة وتعزيز التكافل بين عامة اليمنيين .
الوهابية ومسجد الإمام الهادي :
كما قال العلامة شلتوت شيخ الأزهر الأسبق (محنة الحركة الوهابية أنها انغلقت على ذاتها ووجهت سهام التفسيق والتكفير إلى أتباع كافة المذاهب الإسلامية ) من هذه المقولة تتضح طبيعة المآسي والمجازر الدموية التي أقترفها أتباع الحركة لأنهم كانوا يعتبرون أنهم في جهاد ضد المرتدين ويعتبرون الانتصارات التي يحرزونها فتوحات كان هذا بالنسبة لقبائل نجد والحجاز أما اليمن فلقد جمعت الرغبة بين التعصب الأعمى وحساسية الجوار وعقدة التفوق وكان جامع الهادي وجهة كل الحملات وهذا أمر طويل يحتاج إلى بحث مستقل ونقصر الحديث هنا على رغبات استهداف هذا الصرح العلمي في العصر الحديث إذ تقول الروايات أن الملك فيصل بن عبد العزيز زار الطائف لحل خلاف قبلي وعندما وجد معضلة تحتاج إلى فتوى دينية أمر بإحضار عالم من مكة فاعترض الأعيان الماثلين أمامه قالوا أننا نأخذ فتاوانا من العلامة مجد الدين المؤيدي من صعدة جن جنون الرجل وعاد إلى الرياض ليعقد اجتماع مع دار الفتوى وجهاز المخابرات طلب من الجميع أعداد خطة للقضاء على جامع الهادي مصدر الخطر على الفكر الوهابي و الدولة السعودية بشكل عام بالفعل أعدت خطة تمثلت في :
1) إقامة دار الحديث في المحافظة ومده بإمكانيات كبيرة تمكنه من نشر المذهب السلفي الوهابي وتحريض السلطات في اليمن للتأثير على جامع الهادي وإيقاف حلقات الدرس فيه .
2) الاستفادة من حركة الإخوان المسلمين لشن حرب شعواء على الزيدية والهادوية بتهمة الرفض وسب الصحابة وأمهات المؤمنين وغيرها من دعايات الزيف الباهتة إلاّ أن جميعها بات بالفشل . وظل الصرح شامخاً كأقدم صرح ثقافي وعلمي معالمه راسخة في أذهان كل اليمنيين .
مما أسلفنا ننكشف طبيعة العملية العدائية المبيتة والنوايا الخبيثة التي جعلت قوى العدوان تعلن محافظة صعدة منطقة عسكرية من أول وهلة أنطلق فيها العدوان وقدتم استهداف الجامع بعدة غارات جوية إلا أن العناية الأهلية حمت الجامع وسيظل شامخاً إنشاء الله يستعيد دوره الريادي في نشر علوم العقيدة المستنبطة من أصولها ومنابعها الصافية لمحاربة وإسقاط كل رايات الغلو والتطرف التي شوهت الإسلام ، وقد أنخدع بعض الكتاب اليمنيين ممن أُجزل لهم العطاء فتبنوا حملات ظالمة تعمدت تشويه صورة الإمام الهادي والإساءة إلى دوره الريادي في وضع اللبنات الأولى للدولة اليمنية .