سقوط الحلم الأمريكي

يتفق الجميع على أن الولايات المتحدة الأميركية تحتل مكانة مركزية أولى في السياسة الدولية. ولا شكّ أنها القوّة العظمى الأكبر استقطاباً للاهتمام في شتى أنحاء العالم الذي نعيش فيه منذ الحرب العالمية الثانية. وكانت قد بدت لكثُر بمثابة «القوة المركزية» في عالم أحادي القطب برز بعد سقوط جدار برلين عام 1989 وتفكك الاتحاد السوفييتي السابق وانهيار منظومته الاشتراكية.
الكتب التي تعرّض مؤلفوها من محللين واستراتيجيين أميركيين وأجانب لمختلف المسائل التي تتعلق بالسياسات الأميركية على المستوى العالمي كثيرة. لكن هناك «نسبيا» القليل من الكتب التي يكرّسها أصحابها لتوصيف الحالة المجتمعية الأميركية.
من هنا بالتحديد يكتسي كتاب ميشيل فوكيه، الذي عمل مراسلاً للقناة التلفزيونية الفرنسية الأولى في واشنطن خلال سنوات 2011 ــ 2016 أهميّة خاصّة. ذلك أنه يهتم بتوصيف أميركا من الداخل كما عرفها وخبرها المؤلف عن قرب. يحمل الكتاب عنوان «اميركا الحزينة» والصادر في باريس عن دار نشر ليزارين باريس 2016- – 225صفحة من القطع المتوسط.
ويباشر ميشيل فوكيه حديثه ــ شهادته عن اميركا بالقول إن هناك «أميركيتين» وليس أميركا واحدة فقط.أميركا «الأسطورة» و«الحريّة» و«الموسيقى» و «الحلم الأميركي» الذي يتيح لكل من يؤمّ هذه البلاد أن يكسب حياته ويصعد السلّم الاجتماعي والوظيفي والسياسي حتى أعلى درجاته.
وأيضا أميركا الثروة وآخر صيحات التجديد في عالم الصناعات والتكنولوجيات المتقدّمة. إنها أميركا «وادي السيليكون»، عرين الصناعات والتكنولوجيات الرقمية، و«حي مانهاتن» الشهير و«محرّك بحث غوغل» عبر شبكة الانترنت و«فيسبوك» وبورصة «وول ستريت» المالية و«هوليوود»، عاصمة السينما العالمية.
لكن المؤلف يؤكّد أن هناك «أميركا أخرى» هي بالتحديد التي يطلق عليها توصيف «أميركا الحزينة»، كما جاء في عنوان الكتاب. وأميركا «الحزينة» هذه هي التي عاش فيها خمس سنوات كاملة وعرف خباياها وخبر أنماط حياة أهلها تبعاً لما يمتلكه المعنيون من إمكانيات.
ومن التوصيفات الأساسية التي يستخدمها أنها «البلاد التي تكرّس منذ البداية نصف ميزانيتها لتقوية جيشها وترسانتها الحربية». لكن رغم ذلك هي «البلاد التي خسرت جميع الحروب التي خاضتها». وليس أقلّ تلك الحروب شهرة حرب فيتنام، التي لا تزال الهزيمة فيها تلاحق مخيلة الكثير من الأميركيين حتى الوقت الراهن، رغم مرور عدة عقود على نهايتها.
على الصعيد الاجتماعي يشرح المؤلف، بالاعتماد على العديد من الإحصائيات، أن «نسبة نزلاء السجون فيها تتجاوز نسبياً ــ بالقياس على مجموع عدد السكّان ــ نسبتهم في السجون الصينية أو سجون كوريا الشمالية». وبنفس المقياس تشهد الولايات المتحدة نسبة كبيرة جداً على صعيد الجريمة على مختلف مستوياتها. يشير المؤلف إلى معدّل يقارب سقوط ثلاثين شخصا قتلى على الأرض الأميركية يومياً.
ومن الآفات الأكثر خطورة في أميركا هناك «تعاظم ظاهرة الفقر بالنسبة لأعداد متزايدة من الفقراء»، كما نقرأ. تقول الأرقام المقدّمة أن كل طفل من أربعة أطفال أميركيين يتناولون وجبات الطعام لدى جمعيات المساعدة الاجتماعية. هذا في حين أن الكلفة الباهظة للدراسة ــ معدل وسطي مقداره 40000 دولارأميركي سنوياً ــ تقف عقبة أمام استكمال أعداد كبيرة من الأميركيين الفقراء لدراستهم.
ويؤكّد المؤلف أيضاً أن السياسات الضرائبية التي تنتهجها السلطات المختصة على المستويين الفدرالي العام، كما على صعيد مختلف الولايات الأميركية، تقوم على مجموعة من المعايير «المجحفة» بحق الفقراء.
وما يؤكّده مؤلف هذا الكتاب في محصلة تحليلاته وتوصيفاته لأوضاع الأميركيين بمختلف مشاربهم ومستوياتهم هو أن الولايات المتحدة الأميركية، كما هي عليه اليوم، قد أنهت في واقع الأمر ما تتم تسميته بـ «الحلم الأميركي» الذي جذب موجات متتالية من المهاجرين من كل حدب وصوب على مدى أغلبية القرون الممتدة منذ التأسيس حتى الماضي القريب. لكن الصورة تغيّرت منذ بدايات هذا القرن الحادي والعشرين.
ومن الواضح أن مؤلف هذا العمل لا يتردد في التأكيد أن «الحلم الأميركي قد مات» بالمعنى الذي كان يدلّ عليه في الماضي. ويؤكّد بالمقابل أن «أميركا الحزينة»، كما جاء في عنوان الكتاب، هي السائدة اليوم. وهذا ما يحاول التدليل عليه عبر سلسلة طويلة من الوثائق والإحصائيات.
المعالم الأساسية لـ«أميركا الحزينة» كما تتردد في توصيفات المؤلف أنها «البلاد التي تُرتكب فيها أكثر الجرائم بالأسلحة النارية» و«بلاد أكبر عدد من السجناء» و«بلاد أكبر عدد من الفقراء» و«بلاد الأقليات التي تتعرّض للازدراء» و«بلاد الطقوس العقائدية الضاغطة»، ووصولا إلى القول إن «الفاتورة الاجتماعية لم تكن في أي وقت بهذا الوضوح وهي تزداد خطورة يوماً بعد يوم».
«أميركا الحزينة»، موضوع هذا الكتاب صورة «غير مألوفة» من قبل القرّاء، حيث إنها تختلف كثيرا عن «الصورة النمطية» لبلاد«الحلم الأميركي» وما يحمله من وعود بالنجاح والثراء والترقي الاجتماعي كما يتم تقديمها في الأفلام السينمائية والمسلسلات التلفزيونية والشخصيات ذات الشهرة العالمية التي يمثّلها بالدرجة الأولى الرؤساء الأميركيون.

قد يعجبك ايضا