هدير محمود
قرر مجلس الشيوخ البرازيلي عزل رئيسة البلاد، ديلما روسيف؛ لينهي بذلك أزمة استمرت لمدة تسعة أشهر مضت، اتهمت فيها المعارضة الرئيسة البرازيلية بالتلاعب في الميزانية من خلال أخذ قروض غير قانونية؛ لسد ثقوب في الميزانية عام 2014م، مخفية مشاكل حقيقية للبلاد التي تنزلق في أعمق ركود منذ عقود، حيث صوت 61 عضوًا لصالح قرار العزل، فيما ساندها 21 فقط.
شهدت جلسه البرلمان توجيه اتهامات للرئيسة البرازيلية لمدة 14 ساعة، بينما دافعت روسيف عن نفسها وهي على وشك البكاء، وأكدت أنها ضحية لانقلاب سياسي يشنه معارضوها، وقالت إن البرازيل على بعد خطوة واحدة من الانهيار المؤسسي، مؤكده أن ما يحدث هو انقلاب حقيقي، وذكرت بمعاناتها في ظل النظام القمعي العسكري بين عامي 1964م و1985م، ومعركتها مع السرطان، محذرة الشعب من موت الديمقراطية.
عقب انتهاء جلسة البرلمان وإعلان قرار العزل، أكد محامي روسيف، جوزيه إدواردو كاردوزو، أنهما سيقومان بالطعن في قرار عزل الرئيسة البرازيلية في المحكمة الفدرالية العليا للبلاد، وأكد المحامي أن السبب الرسمي المعلن لإقالة روسيف هو اتهامها بـ”جريمة مسؤولية”، لكن في الواقع أنها هوجمت لأنها تجرأت على الفوز في انتخابات أحبطت مصالح أولئك الذين يريدون تغيير مسار البلاد والفشل في منع التحقيقات حيال الفساد في البرازيل.
إنجازاتها
ديلما روسيف هي أول امرأة تنتخب في انتخابات حرة نزيهة جرت عام 2010م؛ لتفوز خلالها بمنصب رئيسة الدولة الأكبر في أمريكا اللاتينية وخامس بلدان العالم من حيث عدد السكان، وسعت روسيف خلال فترة حكمها إلى الخروج من الهيمنة الأمريكية وتكوين اقتصاد برازيلي مستقل عن الشركات الأمريكية، أوصلته إلى المرتبة السابعة على مستوى العالم، وذلك من خلال الدفع بنموذج اقتصادي-اجتماعي سمح للبرازيل بتحقيق قفزة في نموها الإنتاجي بمشاركة اجتماعية، والدفاع عن مواردها الطبيعية، وتوفير فرص العمل، ومحاربة الفقر، وإخراج أكثر من 35 مليون برازيلي من حالة البؤس، حيث كانوا يعيشون ظروفًا غير إنسانية، ورفع مستوى دخل أربعين مليونًا آخرين، وتوسيع إطار فرص التعليم وجعلها في متناول أبناء الشعب، بما فيها قطاعات كانت مهمشة بشكل كبير.
ويرى العديد من المراقبين، خاصة من مؤيدي حزب اليسار في أمريكا اللاتينية وفنزويلا على وجه التحديد، أن إنجازات الرئيسة البرازيلية داخليًّا وكونها نسخة كربونية من قادة أمريكا اللاتينية والعالم الشرفاء الرافضين للهيمنة الأمريكية، مثل هوغو شافيز، ونيلسون مانديلا، وجمال عبد الناصر، وإيفو موراليس، ودانييل أرتيغا، جعلها محط أنظار القوى العالمية الطامعة في السيطرة على أمريكا اللاتينية، وعلى رأس هذه القوى تأتي الولايات المتحدة الأمريكية التي تعتبر أمريكا اللاتينية حديقتها الخلفية، وقد ساندها في هذه المهمة من الخارج حليفها الصهيوني، ليتآمر الطرفان مع اليمين المتطرف من الداخل البرازيلي، وساهم الركود الاقتصادي وانهيار سعر صرف العملة المحلية مؤخرًا في تسويق فكرة إقالة الرئيسة، ديلما روسيف.
بعيدًا عن إنجازات الداخل البرازيلي، جاءت مواقف روسيف الإقليمية والدولية لتشكل نقطة خلاف مع القوى الغربية أيضًا، حيث عُرفت الرئيس البرازيلية المُقاله بمواقفها المُناصرة للقضايا العربية، وعلى رأسها القضية الفلسطينية، حيث اعترفت البرازيل بدولة فلسطين عام 2010م، وكان السفير البرازيلي في الأمم المتحدة معارضًا شرسًا للسياسيات الصهيونية في فلسطين، ولم تتردد روسيف لحظة في سحب سفيرها من تل أبيب؛ احتجاجًا على جرائم الحرب التي ارتكبتها القوات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين العزل في قطاع غزة خلال الحرب الأخيرة على القطاع في 2014م، كما أن البرازيل ماطلت لمدة أربعة أشهر في استقبال رئيس مجلس المستوطنات السابق، داني دايان، كسفير إسرائيلي في البرازيل، بسبب موقف البرازيل من المستوطنات التي تعتبرها غير شرعية، الأمر الذي جعلها شوكة في حلق الحليفين الأمريكي والصهيوني، فسعيا إلى إزاحتها من المنطقة وتعيين نائبها “ميشال تامر” المدعوم أمريكيًّا وصهيونيًّا.
أزمة داخلية
تحظى الرئيسة البرازيلية المعزولة بشعبية كبيرة بين البرازيليين؛ نظرًا لكونها بعيدة عن أي شبهات فساد، فعلى مدار سنوات اعتلائها منصب رئيسة البلاد لم يوجه إلى روسيف أي اتهامات بمحاولة إثراء نفسها عبر الاختلاس أو الرشوة، وهناك تعاطف مع معاناتها في ظل الديكتاتورية، الأمر الذي دفع بالمئات من مؤيديها إلى الشوارع البرازيلية بعد إعلان قرار عزلها من جانب البرلمان، وهو القرار الذي قوبل برفض وغضب شديد، حيث خرج متظاهرون برازيليون في عدة مدن، من ضمنها العاصمة، وأغلقوا الطرق، وأشعلوا النيران، منددين بمحاكمة روسيف، وواجهت الشرطة هذه التظاهرات بالغاز المسيل للدموع، ورأى مؤيدو الرئيسة أن جلسة الدفاع كانت مجرد إجراء شكلي، إذ إن الحكم سياسي بامتياز.
إدانة دولية
بعيدًا على الضجة الداخلية التي أحدثها عزل الرئيسة البرازيلية، وصلت الضجة إلى خارج ساو باولو، حيث أعلنت وزارة الخارجية الفنزويلية، أن سلطات البلاد قررت تجميد العلاقات مع البرازيل وسحب سفير فنزويلا من عاصمتها بشكل نهائي.
وعلى خطى فنزويلا سارت بوليفيا وكوبا أيضًا، حيث أعلن رئيس بوليفيا، إيفو موراليس، أن بلاده تسحب سفيرها من البرازيل؛ بسبب عزل روسيف، وكتب موراليس على صفحته في موقع التواصل الاجتماعي “تويتر”: إننا ندين الانقلاب البرلماني ضد الديمقراطية البرازيلية، ونقف إلى جانب ديلما والشعب البرازيلي في هذه اللحظة العصيبة، فيما اعتبرت الحكومة الكوبية أن عزل روسيف دون إظهار أي دليل على ارتكابها جناية فساد أو جرائم ومعها حزب العمال وغيره من القوى السياسية اليسارية الحليفة، يشكل عملًا مخالفًا لإرادة الشعب الذي انتخبها بملء إرادته، وأكدت كوبا على تضامنها مع الرئيسة ديلما وحزب العمال، وعبّرت عن ثقتها بأن الشعب البرازيلي سيدافع عن الإنجازات الاجتماعية التي حققها، وسيعارض بحزم السياسات النيو-ليبرالية التي يسعون لفرضها عليه كما سيمنع سلبه موارده الطبيعية.