لا يمكن فهم القضية الجنوبية وحلها إلا بفهم علاقتها بالقضية الوطنية الكبرى


جذور القضية الجنوبية ناتجة عن دورات العنف والصراع في الشمال والجنوب

فهم الجذور مدعاة لنهاية الانتقام وما يمكن إصلاحه وتعويضه يجب أن يبدأ فوراٍ

رؤية مختصرة عن :
جذور القضية الجنوبية
مقدمة من المؤتمر الشعبي العام
لفريق القضية الجنوبية في مؤتمر الحوار الوطني الشامل
مقدمة:
لا شك أن تفكيك محور القضية الجنوبية إلى مكونات أربعة هي : الجذور والمحتوى والحلول والضمانات هو تفكيك منهجي الغاية منه التعمق في فهم القضية في اتجاهات أصولها وحاضرها ومستقبل حلها وهو تفكيك لا يمنع الترابط بين هذه المكونات نشأةٍ ومساراٍ ومآلاٍ لكنه يساعد على الفهم التدريجي لها ويمكن من التوصل إلى حل نهائي يرتكز على معطيات التاريخ والواقع.
وسوف نحاول في هذه الورقة أن نقف فقط عند مكون «الجذور» أي أنها مقاربة تاريخية تِتِغِي الفهم العميق لما مرت به القضية الجنوبية من تحولات انطلاقاٍ من محطة هامة – إن لم تكن الأقدم – فإنها الأبرز والأهم ولا يمكن فهم هذه القضية وكذلك حلها إلا بفهم علاقتها بالقضية الوطنية اليمنية برمتها ذلك أن القضية الجنوبية يجب أن ينظر إليها كمسار تاريخي متجذر في إطار القضية الوطنية الغاية من هذه النظرة هي العرض المحايد والوصف المجرد عن الأحكام وذلك حتى يتسنى التوصل إلى حلول مستقبلية تتجاوز المماحكات والتجاذبات المتبادلة.
وسوف نركز على فهم المصطلح أولاٍ ثم نستعرض التحولات التي صاحبت القضية منذ لحظة الاستقلال الآن ثانياٍ وهي تحولات ترصد في محطتين : ما قبل الوحدة وما بعدها لأن الحديث هنا يمس الجذور نختم باستخلاص عام لأهم ما يمكن أن تخبرنا به التجربة التاريخية عن هذه القضية.
1 – تعريف:
للقضية الجنوبية كمصطلح بعدان : الأول لغوي فلسفي يرتبط بكلمة «قضية» أي مسألة فيها تنازع أو موضوع للبرهنة أي أنها – من حيث المبدأ – ليست محل اتفاق فهي مفهوم إشكالي والبعد الثاني جغرافي سياسي يرتبط بمفهوم النعت الواصف لهذه القضية كونها «جنوبية» أي شطرية وهو أمر يفارق الحالة الوطنية لما صار عليه اليمن من ناحية ويفارق طبيعة القضية بأوجه تمظهراتها في أجزاء أخرى من اليمن ومن هنا فإن مجمل دلالة مصطلح «القضية الجنوبية» ينطوي على طابع «إشكالي» لا يخفى على المختصين المدققين.
لكن لنقل إن بعض الأدبيات السياسية التي تستعمل هذا المصطلح تشير به إلى حالة التداعيات المختلفة التي نتجت عن الصراع السياسي في اليمن منذ الاستقلال أو ربما قبل ذلك مروراٍ باندماج شطري اليمن في كيان موحد انتهاءٍ إلى الآن وهذا تعريف مؤقت يمكن أن يعاد النظر فيه بعد فهم الجذور التاريخية لنشأة هذه القضية ومسار تحولاتها وتبدلاتها والتوصل إلى كيفية معالجتها.
2 – جذور القضية قبل الوحدة:
كل قضية لا بد لها من نقطة «حرجة» أي نقطة تكون فيصلاٍ بين الإرهاصات الأولية التي شكلت خميرتها ولحظة الطفرة التي أفضت إلى حالة الملاحظة البينة لها وفي تقديرنا أنه يجب البحث عن جذور هذه المشكلة في فترة زمنية أقدم تعود ربما إلى الحقبة الاستعمارية وما صاحبها من ضعف تشكل الدولة الوطنية مما أفضى إلى انعدام تراكم الخبرة التاريخية في إدارة دولة موحدة مركبة ومعقدة واسعة الأطراف ولكن حتى لا نلقي اللوم على الغير لنحدد لحظة تاريخية معينة أقرب من ذلك وقع في نطاق تاريخ اليمن المعاصر نقطة نجعلها منطلقاٍ يكون أقرب إلى فهم أجيال هذا الزمن وإلى مشاركات نخبهم السياسية فيه وحتى لا نقع في ما يسميه الفلاسفة بـ «الدور» في ما يخص الفترة هنا فإن الأحسن هو اختيار فترة معاصرة يفضل أن تحدد إما بالعودة إلى لحظة انطلاق الثورة اليمنية سبتمبر وأكتوبر 1962 – 1963م والأفضل أن نعود إلى ما هو أقرب من ذلك وليكن عام 1967م باعتباره عاماٍ مفصلياٍ في تاريخ اليمن وفي تاريخ الجنوب على وجه الخصوص.
وهناك أسباب وجيهة تحمل على النظر في عام 1967م كنقطة فاصلة في تاريخ الدولة اليمنية المعاصرة حيث يصادف هذا العام تحولات سياسية هامة في شطري اليمن : ففي 5 نوفمبر 1967م حدث في الشمال تحول سياسي أفضى إلى تشكل نمط في الحكم مختلف نشأ عنه صراع من نوع آخر غير الصراع مع الملكيين أي نشأ صراع في كنف الجمهورية نفسها بين الفصائل المشاركة بالثورة المدافعة عن الجمهورية وفي نهاية الشهر نفسه (30 نوفمبر 1967م) استقل الشطر الجنوبي من الوطن عن الاستعمار ونشأ صراع بين أطراف الكفاح التي ناضلت معاٍ أو بالتوازي من أجل الاستقلال وانفرد طرف هو «الجبهة القومية» وأقصي طرف آخر فعال هو «جبهة التحرير» رغم الفضل المشترك الذي قدمه الطرفان من أجل التحرير والاستقلال وفوز طرف ما على آخر أفضى إلى نوع من التشريد والانتهاك للحقوق بدرجة أو بأخرى بتهم «العمالة» و«التبعية» وغيرهما وتترتب على ذلك نزورح عدد من قيادات الطرف المغلوب إلى الشطر الشمالي آنذاك وهو ما نشأت عنه نواة صراع لا تزال بعض آثاره تتردد فيما ترتب عليه من تبعات سياسية وأيديولوجية والتعبير عن هذا الصراع ما زال يكتب عنه حتى الآن وما زال بعض رجاله موجودين بيننا في السياسة والثقافة والاقتصاد.
وعام 1967م هو عام تشكل الدولة اليمنية المعاصرة لأن الشمال شهد نهاية الحرب الأهلية ونجحت الأطراف السياسية المتحاربة في إبرام المصالحة الوطنية بينها وخِفت وطأة التدخل الخارجي والجنوب شهد هزيمة الاستعمار وجلاءه عنه كلياٍ وبدأ توحيد مكوناته السياسية المتعددة كما يمكن اعتبار العام 1967م هو عام تشكل الدولة الشطرية والاعتراف بها دولياٍ وهو عام للصراع الداخلي في كل شطر على حدة ونقطة لصراع لاحق بين الشطرين بمسوح أيديولوجية وثقافية واجتماعية رافقته تصفية حسابات نتج عنها نزوح في الاتجاهين من الشمال إلى الجنوب ومن الجنوب إلى الشمال ولكن ربما بكثافة أعلى كما أن امتدادات هذا العام المحوري أفضت إلى صراع داخل الفصائل التي فازت في جولة النضال لنيل الاستقلال أي داخل الجبهة القومية ففي الجنوب تمت الإطاحة بما سمي حينها بـ «اليمين الرجعي» وأطيح بمن حسبوا عليه كمحصلة لما كان يعرف بحركة 22 يونيو 1969م وتحول بعض الفائزين بل رأس الفائزين في الصراع بين الجبهة القومية وجبهة التحرير «قحطان الشعبي وفيصل عبداللطيف الشعبي وغيرهما» إلى مغلوبين في جولة الصراع الداخلي في نطاق الجبهة القومية وتشكلت نواة جديدة للصراع السياسي وللنزوح والتشرد للقيادات التاريخية المدنية العسكرية والأمنية وزج بعضهم في السجون وغادر بعضهم وبعض المرتبطين بهم البلاد نهائياٍ.
وعملت حركة 22 يونيو 1969م على تبني التوجه الاشتراكي وتطبيق مناهجه في مختلف مناحي الحياة وصدر قانون الإصلاح الزراعي الذي تم بموجبه مصادرة الأراضي ونزع ملكيتها وتوزيعها تحت شعار «الأرض لمن يزرعها» تحت وطأة التهييج الشعبي فيما عرف بالانتفاضات الفلاحية وفي عام 1971م تمت الإطاحة برئيس الوزراء وقتل عدد من الدبلوماسيين وغيرهم كما صدر قانون الإسكان عام 1972م وقانون الانتفاع الذي أممت بموجبه الممتلكات الخاصة وحولت إلى ممتلكات عامة وتعاونية وحدثت دورة تصفيات لقيادات وكوادر وشخصيات اجتماعية وعلماء دين كما جرت موجة جديدة من التسريح القسري والتشرد والنزوح لأصحاب الأملاك والأموال إما إلى الشمال أو إلى دول الجوار واستقرت المجموعة النازحة هناك وشكلت معارضة للحكم في الجنوب وكانت تزداد عدداٍ وعدة مع توالي الأيام.
وفي عام 1977م حدث في الشمال اغتيال الرئيس إبراهيم الحمدي الذي وصل إلى السلطة بانقلاب عسكري عام 1974م نتج عن هذا الانقلاب تخفيف حدة الملاحقات والمضايقات عن بعض أطراف الطيف السياسي على حساب أطراف أخرى تعرضت للإبعاد والملاحقة وهو ما لم يحل المعادلة السياسية ولكن سرعان ما اغتيل الحمدي بإخراج مسرحي فج لا يدل على مروءة أو أخلاق في الحياة والسياسة وتولى عقب ذلك أحمد حسين الغشمي وجرت عدة انتهاكات لحقوق الإنسان وسجلت بعض حالات الاختفاء القسري والتشرد والقتل والنزوح من الشمال إلى الجنوب ثم اغتيل الغشمي بدوره عام 1978م في نطاق الصراع المتبادل بين الشطرين ومن دلالات اعتياله وواحدية الإشكالية اليمنية في علاقتها بالسلطة ومنزعها نحو العنف والتصفية في التعامل مع الخصوم السياسيين إذ بْعيد ذلك جرى قتل الرئيس سالم ربيع علي بتهمة «الانتهازية» ليدخل الجنوب في دوامة من الإقصاءات والتصفيات الدموية والاختفاء القسري والتشرد… إلخ وسمي الجناح المغلوب في الصراع بـ «تيار اليسار الانتهازي» وفي وسط هذه الأحداث قبلها وبعدها حدثت دورات من حروب عبثية بين الشطرين كان وقودها أبناء اليمن في مناطق النزاع ونزح مواطنون وسياسيون في الاتجاهين وعمل أنصار كل طرف لدى الطرف الآخر على إذكاء التجاذبات والنزاع أحياناٍ وكانوا وسيلة للتجييش والتشويش على هذا الطرف أو ذاك.
وفي عام 1980م تم إخراج عبدالفتاح إسماعيل من الجنوب وتحالف ضده تيار تولى السلطة لكن سرعان ما دبت بوادر الخلاف بين فريق هذا التحالف وتطور الخلاف إلى أن قامت أحداث 13 يناير 1986م الدامية والتي أطاحت بعدد من قادة الجنوب على رأسهم عبدالفتاح إسماعيل وعلي أحمد ناصر عنتر صالح مصلح قاسم وعلي شايع هادي وغيرهم وذهب ضحية الصراع في هذه الأحداث آلاف المواطنين وغادر الرئيس علي ناصر محمد الجنوب ومعه عشرات الآلاف من الموظفين ومن الأمن والجيش والمواطنين وتمت تصفيات كبيرة في الجنوب بناءٍ على البطاقة الشخصية وبأبشع الطرق بين الإخوة من رفاق الأمس وانتهت الجولة بفوز علي سالم البيض ومجموعته وتوليه السلطة ونزوح علي ناصر محمد ومجاميعه إلى الشمال وبذلك تشكلت بؤرة توتر وصراع جديد بين فريقي أطراف ذلك النزاع ولم يتم التوقيع على اتفاقية الوحدة إلا بشرط إخراج بعض شخصيات الطرف النازح في أحداث عام 1986م من الشمال إلى دول أخرى لتعيش بعض ضحايا هذه الأحداث تشرداٍ طويلاٍ وليطلب ممن لم يغادر عدم المشاركة في الحياة السياسية لدولة الوحدة.
وهكذا نرى أن مرحلة ما قبل الوحدة في الشطرين متشابهة ومتشابكة من وجوه عدة منها.
> النزوح المتبادل للخصوم السياسيين في الاتجاهين من الجنوب إلى الشمال غالباٍ ومن الشمال إلى الجنوب أحياناٍ.
> عمل هؤلاء الخصوم على إذكاء النزاع بين نظامي الشطرين أحياناٍ أو استخدامهم وقوداٍ لهذا النزاع.
> هناك تشابه جزئي في الصراع الدموي على السلطة وما يترتب عليه من موجات العنف والتشريد والاعتقال والإقصاء والملاحقة للخصوم السياسيين وضيق رحابة التسامح والصفح السياسي.
> التدخلات الأجنبية وأثرها في استعمال الأرض اليمنية لتحقيق مكاسب سياسية وثقافية معينة «الحرب الباردة».
> حالة التربص التي نشأت عند كل طرف للانقضاض على الطرف الآخر في أقرب فرصة سانحة باستخدام الوسائل العنيفة والمسلحة.
3 – مسار القضية بعد الوحدة:
وجاءت الوحدة اليمني المباركة وكان المفترض أن تكون مناسبة لطي كل صفحات الصراع القديم داخل كل شطر على حدة وبين الشطرين بما يخلق وئاماٍ تاماٍ في نطاق الدولة اليمنية الموحدة لكن شاءت بعض الأطراف والقوى السياسية كالعادة أن لا تحل ما يْشكل بينها بالطرق السلمية والحوار فلجأت إلى العنف والاغتيالات والتآمر على بعضها بعضاٍ وأخذت نخب سياسية ترتب – كل بطريقتها للاستئثار بالقرار بعيداٍ عن أي استشعار المصلحة العليا لليمن وبعيداٍ عن أي إدراك لما تحقق بفضل الوحدة من رحابة وإخاء وما يقتضيه هذا من مشاركة وتعاون بين كل أطراف العملية السياسية.
وجاءت الانتخابات التشريعية عام 1993م ولم ترض نتائجها طرف سياسي بعينه فأخذت بذرة الشقاق تنمو وكانت تغذيها الأزمة الإقليمية التي أعقبت حرب الخليج والموقف اليمني منها كما أن وصول قوى سياسية جديدة على إثر هذه الانتخابات إلى المرتبة الثانية والتحالف الذي نسج معها رغم موقفها من الوحدة ودستورها واتهام بعض المحسوبين عليها في أعمال عنف واغتيالات كل هذا زعزع الثقة بين الأطراف السياسية وبالأخص بين شريكي الوحدة «المؤتمر الشعبي العام والحزب الاشتراكي اليمني» وحدث تحارب عام 1994م وهو تحارب كان له أثر نفسي مؤلم ووقع غير مرض حتى لدى أولئك الذين خاضوه بحكم الأمر الواقع وهو الدفاع عن الوحدة غير أنه يبدو أن الأطراف السياسية المتنازعة وهي تستحضر دورات الصراع التي سبق عرضها هنا ما كانت لتؤمن ببديل غير استعمال العنف وفشلت مساعي الصلح بعد أن أفرغت وثيقة العهد والاتفاق من فحواها قبل أن يجف حبرها بعدم نية بعض الأطراف الموقعة عليها العمل بها.
ولم تكن هذه الحرب موضع رضا عند معظم الناس في الجنوب والشمال على حد سواء كأي حرب كما أن الناس لم تنس ما تركته في النفوس من شعور بالأسى وخاصة أنها أقرنت ببعض الفتاوى المثيرة وهي دور من دورات العنف السياسي المتتالية التي ضربت اليمن ولكن هذه المرة على المستوى الوطني الشامل.
وبعد هذه الحرب صدر قرار العفو العام إلا أن بعض المحافظات الجنوبية تعرضت لا سيما عدن إلى أعمال النهب الفوضوي لبعض الممتلكات العامة والاستيلاء على بعض المقرات وبعض بيوت القادة ويمكن عرضه في محور مكونات القضية بشيء من التفصيل وكذلك انتعشت في عدن ولحج بعض مظاهر «البسط» على بعض الأراضي وانتقال رجال المال والأعمال أو المتقمصين لهذه المهنة في هذا المجال إلى عدن وحضرموت وغيرهما والحصول على أراض سواءٍ تم الشراء من مدعي الملكية أو صرفت لهم من الجهة المختصة تحت غطاء الاستثمار الذي لم يتحقق حتى الآن في معظمه.
وكان من نتائج هذه الحرب أن الفئة التي اعتادت التفرد بالأمر قد وجدت نفسها في تزاحم مع كوادر كانت مقصية أو كوادر جديدة فسِمت ذلك إقصاء أو إبعاداٍ وأياٍ كان الأمر فإن ما جرى لم يكن بمنظور مناطقي «شمال – جنوب» أبداٍ لكنه يشبه ما يجري الآن في بعض أجهزة الدولة إلى حد معين بشأن الكوادر التي تم إقصاؤها أو المهددة بالإقصاء ولكن في هذه المرة من فئة معينة أخرى أي أن عجلة الاقصاء لم تقف والعبرة لم تحصل والخطر يتشكل من جديد وهو ما يتناقض مع التجربة التي نحن بصدد عرضها والاعتبار بها.
وتفاقمت شكاوى الناس حين أضرت المركزية الشديدة بمصالحهم ومعاشهم.. رغم أن القانون واضح بشأن نقل الصلاحيات للسلطة المحلية..غير أن ذلك عملياٍ لم يرافق بموارد مالية وبصلاحيات إدارية متوازنة وتفشي الفساد وسوء إدارة الممتلكات العامة ولا سيما أراضي الدولة بسبب تعدد جهات الإشراف والصرف وأحياناٍ تعدد من قاموا بالشراء من مدعي الملكية أو من صرفت لهم على أرض بعينها كما برزت قضية التقاعد والتباطؤ في التعامل مع بعض المطالب التي لم يكن المتضررون منها فقط من الجنوب وإنما من اليمن كلها وذلك إثر استراتيجية الأجور عام 2006م التي منحت المتقاعدين الجدد معاشات أكثر مما يحصل عليه من تقاعدوا قبل هذا التاريخ من زملائهم وزاد الطين بله نشوء بؤرة صراع جديدة في صعدة له طابع عنيف أغرى برفع سقف المطالب تدريجياٍ إلى أن صارت إلى ما صارت إليه.
وبان الميل الواضع لدى القوى الشريكة والمؤثرة في صنع القرار بالاستئثار بالقرار السياسي دون مراعاة للشراكة والمصلحة الوطنية والمصلحة العليا إلى أن لاحت بوادر خلافاتها في أزمة صامتة في البدء ثم تطورت رويداٍ رويداٍ حتى صادفت قدوم ما صار يعرف بالربيع العربي.
وهكذا حلت أزمة عام 2011م لتجد فيها القضية الجنوبية مكاناٍ هاماٍ وجاء الحوار ومؤتمره الشامل هذا لتتصدر القضية الجنوبية أجندته بوصفها «جنوبية» موضعاٍ ووطنية بامتياز موضوعاٍ أي أن فهمها في جذورها وتفحص مكوناتها واقعياٍ ثم تصور حلول لها لا يمكن أن يكون سوى في إطار وطني يمني شامل وهذا هو الحال الذي صرنا إليه اليوم فدورات العنف التي عرضناها ليست خاصية «جنوبية» والمشاكل الناتجة عنها لم يكن الجنوب وحده هو من عانى منها وإنما تكاد أنماط العنف السياسي أن تشمل اليمن برمته وأثرة يعم كل أرجائه وإن كان يبدو حاداٍ في بقاع بعينها وهو الآن حاد في استهداف فئة بعينها.
أخيراٍ لعل العرض التاريخي هذا يمهد لتفكيك المكونات السياسية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية لهذه القضية في طريق تشخيصها أولاٍ ثم تصور حل منظومي شامل ومتكامل يضرب صفحاٍ عن الأنماط الثقافية للعنف والتطرف والأثرة ويؤكد حقيقة موضوعية هي أن حل القضايا الخلافية كهذه القضية يجب أن يتم في إطار حواري سلمي يتغي درء المفاسد وجلب المنافع في آن معاٍ وإيقاف عجلة الإقصاء تحت أي مسمى.
4- خلاصة:
أن الاستعراض التاريخي من شأنه إظهار المحددات التالية والتي يمكن بعد استعراض مكونات القضية أن تكون ضمن حزمة الحلول لمستقبلية.
> إن القضية اليمنية الكبرى هي أمن واستقرار ووحدة هذا الوطن والقضية الجنوبية جزء لا يتجزأ من قضية اليمن الكبرى لا يمكن النظر إليها في معزل عنها أبداٍ حتى لا تتكرر مآسي الانتهاكات والتشرد والإقصاء والمصادرات والتصفيات لأسباب إيديولوجية أو مناطقية أو حزبية أو انتقامية من أي نوع كان ولأي مجموعات كانت ونظل ندور في نفس الفلك.
> إن ما جرى في كل المراحل السابقة مما عرضنا له هنا أو لم نذكرة هو في حكم التاريخ وأن العبرة والدرس منه يجب أن تؤكد على عدم تكرار دورات العنف والإقصاء والتشريد والمصادرة تحت أي مسمى.
> إن دورات العنف في اليمن قد بادلت مواقع الأطراف المتورطة في هذه الدورات بحيث يصعب اتهام طرف وتبرئة طرف آخر.. وبالتالي لا يمكن أن يدعي أي طرف بأنه براء مما أصاب البلاد من وابل النزاع ودورات الصراع.
> إن أهم خاصية للشخصية اليمنية هي القدرة على التصالح وعلى التسامح والسمو على الجراح من أجل العيش المشترك والإخاء الدائم وأن ما يمكن تعويضه وإصلاحه يجب البدء به فوراٍ وعلى النحو المطلوب وما لا يمكن ينظر في آلية مستقبلية لاجتنابه وعدم تكراره البتة.
وهكذا نخلص إلى أن جذور القضية الجنوبية ناتجة عن دورات العنف والصراع التي شهدتها اليمن جنوباٍ وشمالاٍ ونتجت عنها جملة من المظالم تمثل بعضها في التهميش والملاحقة والإقصاء والإبعاد وغير ذلك تحت شعارات مختلفة وذرائع متنوعة وهذا كله يجب أن يكون موضع نقد تاريخي بناء أي نقد يبني على الخطأ التاريخي مساراٍ صحيحاٍ مستفيدا من الدرس مجتنباٍ تكرار الأسباب ومعاودة الدواعي ذلك أن فهم الجذور مدعاة لوضع نهاية للانتقام ومشاعر الكراهية التي تعمي عن رؤية رحابة التسامح والتصالح الحقيقيين وفوائدهما من أجل إعلاء قيم وممارسات الحق والعدل والمساواة في جو من حرية يحرسها القانون ويصونها النظام الديمقراطي في دولة مدنية حديثة.

قد يعجبك ايضا