“الثورة” .. ثلاث ساعات في عمق اراضي العدو
الثورة /خالد مسعد
يمانيون صنعوا مجداً في ميادين البطولة والشرف وسطروا بأجسادهم النحيلة ملاحم من البطولات والانتصارات وتركوا بصمات للتاريخ سجلوها دفاعا عن السيادة والكرامة الوطنية .
كل هذه الأسطر يمكننا ان نضعها كإطار ونضع في وسطها الشهيد البطل ماهر الأهنومي .
من هو ماهر الاهنومي؟ …
– الشهيد ماهر الاهنومي اسم يسكن في دهاليز الذاكرة اليمنية ، من مديرية المحابشة بمحافظة حجة …مقاتل صنديد تحت اقدامه اهتزت عروش الطغاة والمتكبرين …
مجاهد صادق وهب نفسه فداء لهذا الوطن …كان رقماً صعباً في جبهتي ميدي في بداية العدوان قبل أن يشارك في أكبر العمليات القتالية العسكرية في العمق السعودي والمتمثلة في الزحف نحو مدينة الحثيرة السعودية.
السيطرة على الحثيرة السعودية.
قبل نحو 8أشهر تمكن ماهر الاهنومي ابن الثالثة والعشرين ربيعاً مع زملائه من تفجير برج المراقبة في مدينة الحثيرة السعودية الذي كان يتمركز فيه القناصة السعوديون ،ليتسنى لهم الزحف نحو الحثيرة والسيطرة عليها بعد معركة استمرت ساعات ،صنع من خلالها زملاء ماهر الاهنومي الفارق وتجاوزا الفوارق بين الامكانيات التي يمتلكها العدو وبين ما يتملكه الجيش واللجان من امكانيات متواضعة ونجحوا خلالها من السيطرة على مدينة سعودية تمتلك موقعاً جغرافياً هاماً على الحدود اليمنية السعودية .
بعد السيطرة .
بعدما سيطر رفاق الشهيد ماهر الأهنومي على مدينة الحثيرة السعودية ،شن طيران العدوان مئات الغارات على رفاق الأهنومي لكن هذه الغارات لم تثنهم من الصمود وسط مدينة الحثيرة حتى الآن .
زيارتنا للحثيرة..
قبل خمسة عشر يوما كانت قناة الساحات وصحيفة “الثورة”، في زيارة تاريخية لمدينة الحثيرة،كأول وسيلتين إعلاميتين يدخلان هذه المدينة السعودية ،منذ السيطرة عليها من قبل الجيش واللجان قبل 8اشهر .
بعد ان تمكنا بصعوبة بالغة من الوصول لمشارف الحثيرة السعودية ،كان في استقبالنا البطل ماهر الأهنومي المشرف الموجود في هذه المدينة…كنت حينها اتوقع ان مشرف الحثيرة رجل مفتول العضلات وكبير السن ،لم يكن يدور بخلدي ان شاباً في هذا العمر هو من قاد الزحف للسيطرة على هذه المدينة السعودية ..
بصوت مفعم بالرجولة والشجاعة تحدث إلينا أبن الاهنومي ((يامرحبا بالاعلام …والله اننا مكيفين لزيارتكم ))
بادرته بالكلام :ونحن سعداء بالتواجد بينكم يابطل ..
مشينا للدخول من الحواجز الحديدية التي وضعها النظام السعودي بين اليمن والسعودية ..كان الشهيد الأهنومي هو دليلنا ومرشدنا بالطريق المزروعة بالالغام .
في طرف المدينة كان طيران العدوان يقصف بصورة جنونية ونحن تحت احد المخابئ ،تملكنا الخوف والرعب والقلق من شدة القصف ،بينما ماهر الاهنومي ،كان يضحك علينا ويقول: ((اصلاً ماشفتم حاجة ))بنوع من الجدية أخذت كلامه وبدأ الخوف يبتعد نوعاً ما ..
بعد نصف ساعة انتقلنا لوسط المدينة بمعية الأهنومي ،وانتهينا من التصوير لحجم الدمار الدي خلفه طيران العدوان في هذه المدينة السعودية ..
بعد أن اكملنا التصوير للدمار ،قلت لماهر هل خلصنا؟
اجاب عادكم بدري ،باقي نروح نصور الدبابات العملاقة التي فجرناها بسلاح آر بي جي ،ولازم نروح نشوف العلم اليمني الذي يرفرف في العمق السعودي في مكان مكشوف وقريب جداً من مواقع العدو.
قلت في نفسي: هذا ليس معه عقل .. الطيران يقصف علينا وهو يريد ان نقوم بزيارة للداخل ولم ابد له امتعاضي وقلقي من المنطقة ،لكن يشهد لله في تلك اللحظة تحمست وتشجعت شجاعة لست ادري من أين امتلكتها .
مشيت بعد ماهر الأهنومي خطوة خطوة خوفاً من الالغام ،وماهي إلا خطوات حتى شن الطيران غارته المجنونة وسط المدينة بالقرب منا ..كنت مذهولاً وهذا البطل يضحك ويقول: عادك ماشفت حاجة ،لازم نواصل …قلت: نواصل نواصل وماله ((شجاعة استحدثتها في الحثيرة)) .
مشينا مع هذا البطل والطيران يقصف من حولنا وهو كان يحكي لنا قصصاً بطولية تدرس للأجيال ونحن بعده بعده ، نسمع حكايات الملاحم الرجولية لأبطال الجيش واللجان الشعبية في منطقة الحثيرة والتي لا تفي المساحة هنا لسردها ولكن ان شاء الله لاحقاً نتناولها .
وصلنا الى مكان تدمير الدبابات خلف المدينة وبالقرب من تواجد العدو ومكشوف تماماً ، حيث قام الشهيد بسرد الآلية التي بها تم تدمير الدبابات والتي جسدت في مجملها عظمة وقوة هؤلاء الرجال الذين أثبتوا للعالم ان المؤسسة العسكرية اليمنية ومصانع الرجال في اليمن لديها من المعجزات ما لم يكن يخطر في بال أحد وتجلت من خلال تدمير هذه الدبابات بسلاح آر بي جي.
العلم اليمني يرفرف .
بعد ان وثقنا الدبابات قال لنا الشهيد الأهنومي:انظروا هناك …كان يشير ببنانه نحو مكان مكشوف وبالقرب من مكان العدو بجهة الشمال ،ليتضح لنا ان العلم اليمني يرفرف هناك،في مشهد لن استطيع التعبير عنه.
قلت :من رفع هذا العلم في هذا المكان الخطير والذي يكلف كثيراً التحرك فيه؟
قالوا لنا ابن الأهنومي ..نظرت إليه قائلاً :أنت بطل وكم أنا فخور بأنني يمني ..
رقصة البرع والطيران يقصف ..
بعد التوثيق الصحفي للدبابات والآليات المدمرة وتصوير العلم اليمني ،وفيما كان الطيران محلقاً ويقصف من حولنا،
.. قلت له: دعنا نسير لقد خلصنا عملنا هنا “ولا تنسى يا خبير نحن في مدينة سعودية وأنا اول مرة ادخل هنا” .
قال الاهنومي : لازم نبترع وأنت تصور ضروري عشان تنقل معنوياتنا وصمودنا للشعب اليمني .
قلت له: “الطيران محلق ويقصف وأنت تريد تبترع ،يا أخي خلينا نروح من هنا “… “وصلني لخارج هذه المدينة السعودية ، “مافيش داعي الابتراع والطيران يقصف” ..قال: “والله ماتدي خطوة إلا تصور ونحن نبترع” …قلت: حسبي الله وطلبت السرعة في رقصة البرع .
طلب من زميله بأن يحضر لنا mp3 ولم يكن في جهاز الصوت بطاريات .
قلت لهم: “ملوش داعي الامبي ثري….(( نبترع على صوت الطيران ودوي الغارات ))…ضحك وأنا ضحكت ربما لأول مرة منذ أن عزمت السفر الى مدينة الحثيرة .
ثم عاود الاهنومي بعناده ومعنوياته المرتفعة قائلاً لزميله :هات الحجران( البطارية) حق الجهاز اللا سلكي الذي كان معنا ..اعطيناه وقمت اصور وهم يبترعوا ،مرت خمس دقائق وقلت لهم: خلاص الحمدلله ابترعنا ..هيا نمشي ،قال: ماشي لازم نسمع زامل عيسى الليث حق الكويت ،قلت لهم بسرعة ،قال صاحبه: مش في هذه الذاكرة، في الذاكرة الثانية وهي في المترس ..كنت اسمع كلامه وأنا خايف ان يطلب احضار الذاكرة لأن المترس يحتاج نصف ساعة للوصول.. والنصف ساعة تعادل بالنسبة لي شهراً كاملا ولكن بالنسبة لهم فهذا امر يسير.. لكنه قال خلاص هات لطف القحوم ((بعنا من الله او سرينا والاشارات تحدي)) قال له زميله: “موجود” ..قلت الحمدلله: ..شغلنا القحوم.
وبدأ رقصة البرع والطيران محلق بصوت قوي و كنت حينها في حالة انسجام تام مع لطف القحوم ومع الحركات الراقصة للاهنومي وكأنه في ميادين القتال فارسا شاهرا سيفه وايضاً كنت منسجما لأنها آخر فقرة في زيارتنا للحثيرة..
خلصنا وطلبت منهم المغادرة وقبل أن اكمل الحديث مرت بجانبي ضربة هاون توقف قلبي معها وماهر الاهنومي يقول: لا تخاف لا تخاف هذه هاون مش صاروخ ..
قلت له: “طيب نمشي هيا نخرج “.
احرجني طلبه بمشاركته في رقصة البرع واعطوني سلاحاً آلياً (كلاشنكوف) وشاركتهم البرع ابترعت بكل جسمي بما فيه قلبي ونسيت تماما تحليق الطائرات وتجاوز كل مشاعر الخوف والقلق .. للبرع سحر كبير يعطي معنويات كبيرة لفرسان الميدان.
العودة من عند الشهيد
بعد الرحلة المتعبة والملفوفة بالمخاطر ودعت ماهر الاهنومي بعد عناق استمر دقائق وكأن ماهر يعرف انه آخر لقاء بيننا ،اتذكر ان ماهر قال لي: أنهم ارتاحوا لزيارتنا لهم في هذه المدينة السعودية حينها أعطيته عنواني وقلت له: يا ماهر إذا خرجت لزيارة اهلك ضروري نلتقي ونتحدث أكثر .. لكنه قال لي بشموخ وعزة: “لن أعود إلى قريتي إلا منتصرا أو شهيدا .. كانت كلمته صادقة من قلبه كنت أنظر إليه نظرات افتخار واعتزاز حينها وانا في ذهول من شجاعة وإيمان هذا البطل الذي وهب نفسه دفاعاً عن عزة وسيادة وكرامة هذا الوطن المعطاء.
استشهاد البطل ماهر الاهنومي.
فجر السبت السادس من اغسطس الجاري اتصل بي زملائي في الاعلام الحربي ،يخبروني بأن العدوان شن ثلاثين غارة على مدينة الحثيرة السعودية، خلفت خمسة شهداء بينهم الشهيد ماهر الاهنومي ،حينها قلت: هنيئا لك يا ماهر لقد اوفيت بكلامك وحصلت على حلمك ايها البطل قبل ان تذرف عيوني بالدموع ، فجعا على رحيل هذا المجاهد البطل .
تشييع مهيب لماهر
الثلاثاء الماضي شيعت مديرية المحابشة ماهر الاهنومي في موكب جنائزي مهيب ،ليرحل إلى ربه تاركاً لنا إرثاً بطولياً يخلد في ذاكرة الاجيال ودروسا عميقة في البطولة والاستبسال .