
د.عبدالقادر باعيسى –
صدر عن مكتبة الصالحية للنشر والتوزيع بغيل باوزير م/ حضرموت الجمهورية اليمنية قبل أكثر من عامين: كتاب أيامي في الجزيرة العربية- حضرموت وجنوب الجزيرة 1934-1944م لدورين إنجرامز زوجة المستشار البريطاني بالمكلا لدى السلطنة القعيطية هارولد إنجرامز وترجمه الأستاذ نجيب سعيد باوزير الذي كان يهمه نقل أفكار المؤلفة بدقة من خلال حرصه – فضلا عن دقته المعروفة- على مراجعة الترجمة عن اللغة الانجليزية من قبل الدكتور خالد يسلم بلخشر. والكتاب إذ يقدم صورة عن حضرموت في تلك الفترة فإن بلاغته لا تقوم في ذاته حسب وإنما فيما يثيره من تصور بين الوضعين الماضي والراهن من خلال ما كان بحضرموت وما مر بها في إطار المتغيرات السياسية والاجتماعية والفكرية التي شهدتها.
وهو كتاب جاذب في طريقة عرضه وأسلوبه وخباياه فحضرموت بعيون الغربيين الذين يركبون الجمال والحمير لأول مرة في حياتهم ويشعرون بأن (حظهم كان سعيدا) لأنهم يتعرفون على وطن صخري صحراوي ككل جنوب اليمن الذي يبدو ((من الجو أشبه بمنظر سطح القمر ليس فيه ما يسر الناظر)) تتحول إلى جمال خاص عند معاشرتها فالعزلة قد تعني القمة والتفرد وخصوصية الألوان. وكان على الحضارمة بدورهم أن يدعوا دورين إنجرامز من عزلتها لنطق الشهادتين وكان ذلك يرسم للأوربيين الخارطة النفسية والثقافية لأهل البلد الذي كانوا يراقبونه بحساسية شديدة وعن قرب من خلال تقلبهم في الوديان والهضاب والقرى. كانوا في بداية تعرفهم يمتدون بمحاذاة الأرض وفي الوقت نفسه بمحاذاة النفوس وكلما توغلوا في الأرض توغلوا في معرفة الإنسان والعادات والتقاليد الاجتماعية حتى دخلوا البيوت ليكتشفوا في كل مرة أنهم يدخلون في سلام أكبر ومحبة.
ويدخلون في خطر مخيف أيضا بسبب الصراعات القبلية فحضرموت في ذلك الوقت بلد يحمل جزءا من اسمه بحق (حضر الموت) وكان شيئا مزعجا أن يوقف البدو الحضارمة السيارات قبل ثمانين يطلبون ((مائة ريال ماريا ترينزا )) ليستقروا في النهاية على عشرة ريالات وكأنهم كانوا ينظرون إلى الثراء الذي توحي به هيئة الأجانب وبيوت الأثرياء من آل الكاف التي يقصدونها في تريم ولعل ذلك كان لشظف شديد يعانونه ولم يكن (( في عام 1943م حكومة ذات إدارة منظمة لا في السلطة القعيطية ولا الكثيرية وكان السلطانان هما اللذان يسيران الأمور شخصيا تقريبا بمساعدة سكرتير ومسؤول خزينة وقاض وقائد قوات)) وإن كان للجهاز العسكري للسلطنة القعيطية شيء من الهيبة).
كانت دورين تخاطر والمخاطرة متعة أوربية بامتياز فقد سافرت مع السيد علوي العطاس إلى وادي عمد في إطار جهود زوجها لإقناع قبائل الجعدة ُبالسلام والهدنة في وقت كانت فيه البلدان والناس في حالة استنفار دائم وتوجس من أي رصاصة تأتي من مكان مجهول حتى الزراعة كانت تتوجس كثيرا من الإحراق ولولا رحلة امرأتين على جمل عربية وغربية ( دورين وجميلة من العاملات الجميلات في بيت العطاس بحريضة ) ورفع هذه الأخيرة صوتها بالحداء للجمل لبدا لنا وصف الحال أكثر مأساوية وكآبة.
كان على الكاتبة أن تقطع رحلة جغرافية كبيرة ورحلة ثقافية كبيرة وكان عليها أن تقطع رحلة ثقافية أخرى بين الرجال والنساء في مجتمع يبدو غير قلق على حاله وغير مهتم بأوضاعه إلا ما يتصل بشؤون التناحر بين القبائل ومن ثم الأمن. والحق أنه في مثل ذلك الوضع لا يخطر على البال إلا الأمن الذي كانت تتمتع به بصورة أكبر من غيرها مدن الدولة القعيطية والكثيرية (المكلا وتريم وسيئون) حيث تبنى القصور ويسود الأمان والسلام والغناء ولعب الورق وما عدا ذلك فليس إلا الثأر والبق والبعوض في القرى يستقبلك في غرف الاستقبال وكأن كلا يبني مملكته في حضرموت في ذلك الوقت وربما كان البق هو الوحيد من بين كل الممالك والكائنات يهنأ بمملكة الدوام دون تهديد ذلك لأن أساليب مكافحته لم تكن رائجة عصرئذ والحقيقة أن الحكومة البريطانية كما تقول دورين اهتمت بعدن فقط وأهملت ما عداها من المحميات المتشعبة المشاكل حتى بدا الوقت كما لو كان متوقفا في حضرموت والذي كان يتحرك هو زمن داخلي في الغرف والبيوت الفارهة عند الدخول بالشاي الداخل حديثا إلى البلاد والغذاء الأندونيسي الجديد على المطبخ الحضرمي والحديث عن طريق السيارات الترابية البكر التي تشق الجبال والوهاد داعية السائح للتوقف عندها للاستمتاع بمشاهدة الزمن الواقف حد اللمس وكلما تم التحرك نحو المناطق الداخلية مشيا على الأرجل كان الزمن أثقل وكانت حركة الجمل دالة تقريبا على الزمن نفسه الذي قطعه الإنسان العربي من العصر الجاهلي إلى بداية القرن العشرين فكما انتظمت حياة الناس على هيئة واحدة انتظمت حركتهم وأفكارهم على هيئة واحدة.
ومع هذا فإن ما كانت تهتم به دورين إنجرامز هو الإنسان بنيويا في لحظة تاريخية معينة ومكان محدد وكانت الجرأة الغربية والثقة العالية بالنفس التي قد يشوبها شيء من الاستعلاء المبطن توجه طريقتها في كيفية النظر إلى الآخرين والتعامل معهم فكان يهمها جدا أن تتكلم بالعربية لتفهم انفعالات الناس بل باللهجة المحلية بل أن تلاحظ اختلاف اللهجات وهي في الغالب تصدر تعليقات لاذعة على ما تشاهد (( وتنفسنا جميعنا الصعداء عندما لاحت لنا صيف البلدة الصغيرة القذرة التي يبدو أنها لم ترق لأي من الرحالة الأوربيين )) وتسحب هذا الحكم العام إلى داخل البيوت بالتفصيل (( ويمكن أن يكون ضعف البصر نعمة إذا كنت في بلدة مثل صيف فعندما أخلع النظارة لا أعود أرى الوسخ الملتصق على الجدران ولا حشرات البق في الحمام ولكن هذه المغالطة البصرية لم تمنع عني الحك الفظيع الذي كان سمة الليلة التي قضيتها هناك ولم أتأسف عندما طلع الصباح وغادرنا صيف متجهين إلى الهجرين )) ولا تعدم أن تجد تعليلا مقبولا لما شاهدته لا يخلو بدوره من قرص (( ويعود السبب في القذارة التي تعيش فيها هذه القرى وأهلها إلى شحة الماء فإذا انقطعت الأمطار لبعض الوقت لم يعد هناك ماء كاف لغسل الملابس وتنظيف البيوت لأن معظم كمية الماء المتوفرة تذهب للشرب والطبخ ووضوء الصلاة ولكن عندما ينشأ المرء في بيئة قذرة فإنه يكون من الصعب عليه أن يشعر بما هو فيه )).
وفي هذه الأجواء كانت الحمير أكثر حضورا في الطرق والقرى وحتى المدن وإن كانت السيدة دورين لم تستطع التكيف مطلقا مع ركوب الحمار لأن وزنها كان ثقيلا عليه ولأن ساقيها الطويلتين كانتا تتدليان على جانبي الحمار حتى لتكادا أن تلمسا الأرض ولكن الحضرمي الذي ألف المعاناة حتى اعتادها قد يعز عليه حتى ركوب الحمير فمشى حافيا لابسا (( فانلة قذرة تملؤها الثقوب وعلى رأسه كوفية أكثر قذارة )) والبق يخدش الجميع ويهجم عليهم من مخابئه في شقوق الغرف وأن يسيل الدم في ذلك الوقت من البق أو القنابل أو القبائل فالفرق غير كبير جدا.
ما كانت دورين انجرامز تصف فقط ولكنها تتأمل من خلال الوصف وتتأمل بصورة خاصة في الأشياء الخاصة وما كانت تسترق النظرات بل كانت تنظر بملء عينيها وتكتب والنظرة لم تغادر عينيها بعد ولا تتوقف ريثما تستذكر شيئا وإنما تعيش جدل الكونية الاستعمارية والخصوصية المحلية من غير أن يبدو عليها اضطراب كما لو كانت في لندن تماما لا تشعر بالخوف رغم أنها مع الرجال الغرباء وسط البراري الحضرمية البعيدة.