د. عرفات الرميمة
في ظني -وقد أكون مخطئاً- أنه لا يمكن الحديث عن موت المثقف وسقوط سطوة الثقافي -كأداة لتغير الوعي وتشكيل رأي عام- دون الحديث عن سقوط الأيديولوجيا وذلك للارتباط الوثيق بينهما، فقد كانت نهاية الأيديولوجيا مقدمة منطقية نتيجتها الحتمية هي الحديث عن موت المثقف فيما بعد، فقد بدأ الحديث عن مفهوم نهاية الأيديولوجيا عندما تم نقل المفهوم من مجال علم اجتماع المعرفة ليصبح موضوعاً من موضوعات علم الاجتماع السياسي، ويمكن القول: إن ظهور المصطلح في الأدبيات الأمريكية للمرة الأولى كان في العام 1951م وقُصِد به الحديث عن نهاية صوفية اليسار التي ظهرت بعد الحرب العالمية الثانية.
وكل من تحدث عن نهاية الأيديولوجيا كان يقصد بها باختصار: تفضيل المثقف الأوروبي اليساري النظام الرأسمالي على الاشتراكية وإجماع المثقفين الاشتراكيين في أوروبا على قبول دولة الرفاهية وتفضيل السلطة اللامركزية والتعددية السياسية.
وتوالت الكتابات التي تحدثت عن نهاية الأيديولوجيا -وخصوصاً بعد سقوط الاشتراكية وتفكك الاتحاد السوفيتي في العام 1989م-.
كنتيجة حتمية لثورة الاتصالات والمواصلات وظهور النظام العالمي المعوّلم أمريكياً، فقد اعتبر ريجيس دوبريه في كتابه المعنون بـ(الميديولوجيا: علم الإعلام العام) أن السبب في هزيمة الأيديولوجيا الشيوعية يعود إلى انتصار الفيديولوجيا -يقصد بها وسائل الإعلام الحديثة وخصوصا التلفزيون- على الأيديولوجيا ، بما يعني انتصار الاستهلاك الفوري الذي يروج لها التلفزيون على حساب الأفكار والقناعات التي روج لها الكتاب سابقا وقد نشأت صناعة إعلامية -سمعية وبصرية- عملت على إشباع حاجات متزايدة حمل على قيامها نشوء نظام جديد لإنتاج وتوزيع الثقافة يسمى النظام السمعي البصري، وكذلك فإن اختراع الانترنت خلق انطباعاً فحواه: عدم الحاجة إلى الكتاب، وبالتالي زوال الحاجة إلى دور المثقفين بوصفهم حملة للمعارف وموزعيها وناشريها بين الناس، ومن هُنا بالتحديد يمكن الحديث عن موت المثقف وانتهاء دوره في المجتمع.
فقد أدى تقدم وسائل المواصلات والاتصالات إلى تقدم المعرفة وسهولة تداول المعلومات وبالتالي بدى التساؤل مشروعاً: عن دور المثقف الملتزم في إطار النقد والتجديد المستمر للفكر الغربي، فقد رفض ميشال فوكو أي دورِ للمثقف الذي ينوب عن الجماهير ويحل محلها في التعبير عن همومها ومشاكلها ومعاناتها ويتسق كلام فوكو مع أطروحات بيار بورديو عن المثقفين – خصوصاً أنه أحد المبادرين لتطوير سوسيولوجيا المثقفين -باعتبارهم كائنات بشرية لها مصالح وتمتلك استراتيجيات هيمنة وإرادات قوة، وهم في ذلك مثلهم مثل غيرهم من باقي الفئات الاجتماعية الأخرى الذين تحركهم المصالح – ولو بشكل لاشعوري – وليسوا ملائكة وليسوا كائنات تعيش فوق الجاذبية الاجتماعية كما يقول.
ووصلت ذروة القول بموت المثقف عندما أقترح جان زيكلر إقامة متاحف للمثقفين ، وكان يقصد باقتراحه أننا نعيش في عصر موت المثقف المتخصص في الإنتاج الرمزي من الكلمات والأفكار.
ما سبق طرحه، يؤكد لنا -بما لا يدع مجالاً للشك- أنه لم يعد للمثقف مكاناً في ظل تطور ثورة المواصلات والاتصالات، فقد أصبح بإمكان الجميع تصّفح الانترنت، والحصول على أي معلومة في أي مجال عن طريق متصفح جوجل، أصبحت الويكيديا هي المثقف الحقيقي في هذا الزمن، وهي التي حفرت قبراً للمثقف باعتباره مستشاراً أميناً وبنكاً للمعلومات يقصده كل طالب للمعرفة وكل متسولِ للمعلومة، ولا ننسى كذلك أن وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة – كالفيس بوك والتويتر والوتس آب – جعلت كل من يكتب جملة على صفحته يعتبر نفسه كاتبا ومثقفا ومتخصصاً في جميع شؤون الحياة، وبالتالي فكل الناس أصبحوا مثقفين من وجهة نظرهم ولا داعي للمثقف الذي يبيع أبجديات الثقافة في حارة المثقفين.
لقد مات المثقف وانتهى دوره باعتباره صاحب وكالة فكرية أو مدرسة أخلاقية تُجيز له أن يتحدث بدلاً عن الجمهور، وأن يفكر بالنيابة عنهم؛ لأن الواقع المعاش يقول بأن المثقف قد فشل فشلاً ذريعاً في قيادة المجتمع باعتباره يمثل النخبة المستنيرة -التي أضاءت الطريق في الماضي وخبأ ضوءها الآن-؛ لأن الجميع أصيب بدعوى الثقافة والتثقيف وأصبحت الثقافة تشبه إلى حد كبير الجنابي الصيني التي أصبحت في متناول الجميع .