“معا ذ الجنيد”.. “شاعر الصمود”.
“معا ذ الجنيد”.. “شاعر الصمود”.
د. صادق القاضي.
عندما بدأت “عاصفة الحزم” بدا كل شيءٍ خاصٍ وجميل وواعد في اليمن، على محك المحو والقهر والاستلاب: الأرض والإنسان، الحاضر والماضي والمستقبل.. وعلى الظلال الشاحبة للشعور العام بالتلاشي.. بدا كل شيء عدمياً، حتى الاستسلام، أمام اجتياح استثنائي في همجيته، ودرجة ازدرائه لقيم الحق والحرية والخير والجمال.!
لكن المشاعر السوداوية تلك كانت قصيرة الأمد، فسرعان ما انتفضت طيور الفينيق من تحت الرماد، وهبت في وجه العاصفة، أعاصير من نار وغضب وصمود يجترح المعجزات.
كانت الإمبراطورية الإعلامية الهائلة المساندة للعاصفة، تقصف العقول والقيم والمشاعر والتطلعات النبيلة بأكثر مما تفعل القنابل العنقودية بالأطفال والنساء في البيوت والأسواق والولائم والمآتم!.
حشد التحالف كل أبواقه وأراجيفه، وأبواق وأراجيف غيره، في الحرب على اليمن، وألقى شعراء اليمن قصائدهم، “فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ”.
لم تكن أخبار نجاح “رجال الرجال” في جبهات المواجهة المباشرة، أكثر أو أقل من زوامل وقصائد “الشعراء” تأثيراً، وإثارة للحماس والأمل والتحدي.. وكما نجح هؤلاء في تبديد الذعر واليأس والإحباط.. نجحوا في إعادة الثقة للشعب بقواه وقضاياه الوطنية، والحشد الشعبي لجبهة المقاومة اليمنية، وحتى توجيه المعارك، والتأثير في مسار الأحداث.
لم يكن دور الكلمة، يقل بحال عن دور البندقية، بعض الشعراء حملوا الأسلحة أيضا بجانب الأقلام، وضحوا بأرواحهم في ميادين الشرف والصمود، وبشكل عام، لم يسجل الشعر الشعبي، بشكل خاص، حضوره الكمي والكيفي في ملحمة وطنية خالدة، كما فعل خلال “عاصفة الحزم”.
في هذا المقام، فرض الشاعر “معاذ الجنيد”، حضوره المميز، منذ البدء، عندما قَالَ “مذياع الخليج” “إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ، فَاخْشَوْهُمْ” قال “معاذ الجنيد”:
يمنُ الصمودِ بدفنكُم أحرى..
فلتحشدوا العشرين ، لا العشرا
وعندما كان هدير طائرات العدوان، يبث الرعب من سماء صنعاء، كان أهل المدن اليمنية يتمثلون ببيت معاذ:
حُومي على صنعاء .. حُومي ..
يا بنت ( سلمان ) الرجيمِ
وظلت قصائد معاذ، وغيره من الشعراء، تواكب وقائع الحرب، بمواقف الصمود، وكان لها مفعول السحر، في ظروف مدلهمة أقرب إلى الجنون منها إلى تقاليد الحروب، وأخلاقيات الصراع والمنافسة.
من الطبيعي، كما قد يرى البعض، أن قضية الصمود والتحدي، ككل قضية كبيرة، حرمت الشاعر “معاذ ” من بعض المتع الفنية، إلا أن جناية القضية على الفن، لم تكن لتنال بشكل مؤثر، من شاعر مقتدر، يمتلك موهبة من نوع خاص، للجمع بين البلاغة والتبليغ، كما في قصيدة “صنعاء تُقصف”:
صنعاءُ تُقصفْ
يا شعوب العالم العربيّ..
هل تدرون ما معناه إنْ قلنا لكُمْ:
صنعاء تُقصفْ ؟!
هذه القصيدة التي هي بحق من أعمق وأصدق التوصيفات السياسية لمعنى العدوان، هي أيضا بحق من عيون الشعر، جمالا فنيا، ما يشف عن قدرة نادرة على المزاوجة العبقرية بين القيم الجمالية والقيم التواصلية للشعر.
“الأسلوب هو الرجل”: كما قال “بيفون”، ومبكراً، امتلك “معاذ الجنيد”، شخصيته الأسلوبية، وملامحه الفنية، وصوته الشعري الخاص، بخصوصيات معجمية وتركيبية وإيقاعية وتصويرية ودرامية وميتافيزيقية.. تؤسس لفرادته الأسلوبية، كعلامة شعرية مميزة.
كاحتياط لا بد منه، الشاعر “معاذ الجنيد”، شاعر كبير، وإنسان أكبر، لا يحتاج إلى إطراء أو مكبرات صوت نقدية ليشتهر، كما لم يركب القضية إلى الشهرة، بعد أن أصبح هو نفسه طريقا للشهرة، من قبل العاصفة، ومن قبل العاصفة كان حاضراً بتميز في مقامات شعرية أخرى، تؤكد أن شاعريته تتحقق من خلال الفن، بغض النظر عن المضمون والقضية.
لا “تقريظ”، في هذا المقام، أبلغ وأقوى من دموع أحد أبرز وأنبل القامات الأدبية والشعرية في اليمن، وأحد كبار مؤسسي اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين، ومن أهم رواد وأساطين الأدب والشعر اليمني الحديث، عندما التقى واستمع لإحدى قصائد “معاذ الجنيد”، فقال والدموع ترتجف في عينيه: “أحمد الله الذي أطال بعمري حتى ألتقي بهذا الشاعر”.
هذا هو الأستاذ “محمد عبد الباري الفُتيح” ( 1932 : 2013م)، وهو هنا، كـ”شاهد على اليمن” يلخص خبرته المخضرمة الطويلة عن الأرقام الشعرية النوعية، ليزج بمعاذ في الصف الأول، كعلامة استثنائية فارقة في الشعر اليمني المعاصر.
كانت تلك القصيدة غزلية مكتوبة باللغة “العامية”، وفي الواقع بدأت تجربة الشاعر في لفت انتباه واهتمام الجمهور والنقاد في اليمن والخليج من خلال الغزليات العامية، التي فضلا عن الشهرة وسرعة الانتشار، تمثلت درجة عالية من الجدة الشعرية، والخصوصية الأسلوبية البديعة، في اللغة والبناء والتصوير..
بيد أن تجارب الشاعر المتصاعدة، برهنت بأكثر مما يكفي أن قصائده الفصيحة لا تقل جمالا وروعة ودرجة إبداعية عن تجاربه الشعرية العامية، وأن المستوى الإبداعي لا يتقيد بالضرورة بالمستوى اللغوي.
من شاعر يتهادى بغزلياته العشاق، في أزكى لقاءات الوجدـ، إلى شاعر يتزود بحماسياته الفرسان في أدجى ساعات الخطر، يكون الشاعر “معاذ الجنيد” قد نقش وجهه عميقا على جدارية اليمن، شعراً وقضية وذائقة جمالية..
عودا على بدء، كانت أبيات وقصائد “معاذ الجنيد”، طوال العدوان، هي الأجمل شكلاً، والأكمل مضمونا، والأسرع انتشاراً والأكثر تأثيرا.. ما يعمده، في صدارة شعراء الصمود والتحدي، كعنوان متوهج لملحمة الشعر والصمود، سواء من خلال شاعريته الفردية، أو من خلال قيادته لجبهة الشعر، عبر “مؤسسة دمون” للثقافة والإبداع”، بفعالياتها المتواصلة، أو الموسمية، كمسابقة “شاعر الصمود””2016م” المسابقة الجماهيرية التي أعادت للشعر الشعبي زخمه الجماهيري، ورفعت من مستوى الحس الشعبي بالجمال، والوعي العام بالقضايا الوطنية.