في محافظة عدن..
عدن / عبدالعزيز شمسان
استهداف المواقع الأثرية سيظل وصمة عار على جبين العدوان ، وشاهدة على إحدى أبشع الجرائم التاريخية
الجماعات المتطرفة ترتكب جرائم ضد الإنسانية والديانات .. وتدمر المساجد والأضرحة
إهمال الجهات المعنية يجعل هوية وتاريخ شعب في مهب الريح
عدن .. البحر والجمال، المدينة الاستثنائية في أطلس الجغرافيا اليمنية التي تشكل حلقة وصل بين قارات العالم القديم ومهد حضارة الإنسان، طالها الدمار وغير ملامحها إلى الحد الذي يصعب عليك فيه التكهن بمدى إمكانية إعادتها إلى سابق عهدها.
خراب لم يكن استثنائياً في معادلة الخراب الشامل والكامل التي تعرضت له عدن خصوصاً في جانبها الأثري الذي شهد تدميراً أشبه ما يكون بالتدمير الممنهج، اشتركت فيه أطراف عديدة ابتداء من العدوان السعودي الغاشم، إلى عناصر القاعدة، ووصولاً إلى تنظيم داعش.
ولتسليط الضوء أكثر عن حجم المأساة ( الثورة ) زارت المواقع الأثرية والتاريخية المتضررة في محافظة عدن، واطلعت عن كثب على حجم الدمار والخراب الذي طالها.. وهاكم المحصلة:
لتكن البداية من قلعة صيرة التي تعد من أجمل وأكبر القلاع واقدمها، وهي شاهدة على الكثير من الأحداث التاريخية التي مرت بها المحافظة، كون موقعها المتميز الذي يعانق البحر جعلها تشكل خط دفاع متقدماً لحماية عدن من الغزو الخارجي، كالبرتغاليين، والمماليك، والعثمانيين، بالإضافة إلى صمودها الأسطوري ضد الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس”بريطانيا”.
وبالرغم من ذلك لم يكن لثقافة العدوان السعودي الغاشم أن يعرف شيئاً عن قلعة يعود تاريخها إلى القرن الحادي عشر قبل الميلاد، بل اعتبره هدفاً عسكرياً مشروعاً ومعادياً،حيث أصيبت قلعة صيرة بأضرار كبيرة نتيجة القصف المباشر لها في الثاني من شهر يونيو العام الماضي، وبالرغم من هذا العمل الإجرامي بحق التاريخ لا تزال القلعة باقية رغم تحديات الزمان والعدوان.
المتحف الوطني
في ذات اليوم لم تكن قلعة صيرة وحدها التي تعرضت للدمار، بل كان أيضاً للمتحف الوطني الذي يعود تاريخ بنائه إلى عهد السلطان “فضل بن علي العبدلي” في العام (1912م) نصيبه من وزر المصيبة، حيث تعرض المتحف لقصف صاروخي أدى إلى إحداث دمار هائل، ناهيك عن فقدان العديد من مكتنزاته الأثرية.
وبحسب هيئة الآثار والمتاحف اليمنية، كان المتحف يتألف من 7 صالات، وتوجد فيه أكثر من 5 آلاف قطعة أثرية، تم تنظيمها وفق التسلسل التاريخي والزمني للوقائع والأحداث التاريخية المتعاقبة ابتداءً من العصور الحجرية، وعصور ما قبل التاريخ، والعصر الإسلامي، والاحتلال البريطاني، ثم فترة حكم الأئمة .
مكتبة باذيب
مكتبة “الفقيد عبدالله باذيب” الوطنية، هنا ينحني العقل تقديراً لهذا الصرح الثقافي والرائد الذي يعود تاريخ بنائها إلى أكثر من خمسة عقود، نفضت خلالها غبار الجهل والتخلف ، لتكون حاضنة المثقفين.
باذيب المكتبة التي يتردّد عليها عشرات الزوار يومياً، للاطلاع على ما تحتويه أقسامها المتعددة التي تصل إلى 12 قسماً، من كتب، ومطبوعات، وارشيف ثقافي وصحافي نادر، طالها الدمار نتيجة قصف العدوان المباشر لها لتنبثق من اقسامها المختلفة رائحة دخان النيران التي أكلت معها صفحات التاريخ.
سيبقى هذا العمل الإجرامي وصمة عار على جبين العدوان السعودي، وشاهدة على أحدى أبشع الجرائم الثقافية.
مسجد الخوجة
تهدم المآذن ولا ينقطع صوت الأذان، وتنوب الحناجر عن مكبرات الصوت،هذا هو واقع مساجد عدن اليوم،خاصة وأن عناصر القاعدة ترى من المساجد التراثية أهدافاً لها ولما يريد فرضه من ممارسات وفق تأويله وهواه.
ففي الـ28 نوفمبر2015م ،أقدمت عناصر القاعدة على هدم مسجد الخوجة التاريخي الواقع بشارع الإمام العيدروس بمديرية كريتر ودكه بالجرارات بحجة تكفير طائفة ليصبح أثراً بعد عين.
هذا وسبق تدمير المسجد قصف مقاتلات تحالف العدوان السعودي لقبة مسجد الخوجة، ما أدى إلى تدمير أجزاء كبيرة منه ، وخاصة قبتيه التاريخيتين اللتين يعود تاريخهما لأكثر من 180 عاما ، وبهذا العمل الإجرامي يسجل المسجد الأثري والتاريخي أسطر المأساة التي تعيشها عدن في الفوضى والحرب التي لم تبق أو تذر.
دور العبادة
في الوقت الذي يعد فيه الإسلام ديناً يحترم الديانات،كان للعناصر التكفيرية رأي آخر يتمثل في رغبتها السيطرة والإمساك بمقدرات الأمور في المواقع التي تسيطر عليها.
هذه المرة كان لعناصر الإجرام شكل مختلف حيث استعرضت 30 دراجة نارية تحمل شعارات القاعدة وداعش أثناء توجههم إلى كنيسة “سانت جوزيف” الباردي الكاثوليكية الكائنة بمديرية كريتر حي الباردي وقاموا باقتحامها ودمروا تمثالاً أثرياً قديماً، وأحرقوا الصور الأثرية الموجودة فيها، قبل أن يقوموا بإحراق الكنيسة بالكامل.
هذا وتعد كنيسة “سانت جوزيف” من أقدم الكنائس الموجودة بمحافظة عدن، إذ تم بناؤها عام 1850، وتتبع البعثة الكاثوليكية الرومانية، وقد تحول جزء منها في السنوات الأخيرة إلى مدرسة.
أضرار جسيمة
تعددت الصور والدمار واحد، كما هو الحال في كنيسة الحبل بلا دنس الكاثوليكية بعدن، التي تعرضت لقصف من قبل طائرات التحالف العربي الذي تقوده السعودية، ما ألحق بها أضراراً جسيمة، لكنها لم تُدمّر بالكامل.
المعبد الهندوسي
لا تزال أيادي العبث والتخريب تطال البنية الأثرية في عدن، بلد الحضارة والتاريخ خاصة منذ أن استطاعت جماعات متطرفة السيطرة على المحافظة، حيث أقدمت عناصر القاعدة على هدم المعبد الهندوسي بمنطقة الخساف الجبلية في مدينة كريتر، بحجة أنَّه مخالف للتعاليم الإسلامية ،وبالرغم من مرور أكثر من مائة عام منذ بنائه، ظلَّ أتباع الديانة يمارسون طقوسهم وشعائرهم بكل هدوء، دون أن يعترضهم أحد، حتى قضت الهمجية المتطرفة عليه.
ضريح الشاطري
في كل ساعة تمر تفاجأ الأوساط الدينية بممارسات داعش التي لا تمت إلى أي دين بصلة، ممارسات لم يكن آخرها إقدام هذا التنظيم التكفيري وتحديداً فجر يوم الجمعة 4 سبتمبر 2015م على تحطيم ضريح الإمام”الحبيب محمد بن علوي الشاطري” بمديرية المعلا .
وبالرغم من أنه سبق وإن جرت محاولة لإزالة الضريح الذي يعود تاريخه إلى سنة (897هـ) أثناء عملية تشييد الشارع خلال عهد الاحتلال البريطاني للمدينة، إلا أن احتجاج الأهالي أوقف هذا العمل الإجرامي.
مقبرة المسيحيين
لم تقتصر حرب مدمري الإرث التاريخي على المتاحف والمعابد وعلى كل ما يتعلق بتاريخ محافظة عدن، بل تجاوزت كل القيم الإسلامية، لتطال هذه المرة مقبرة المسيحيين الواقعة في الأطراف الجنوبية من مديرية المعلا التي تعرضت للتدمير والتخريب والعبث من قبل عناصر القاعدة الذين قاموا بطمس القبور وهدمها وإزالة العلامات التسلسلية من الأضرحة وتكسير أعمدتها على الأرض، بالإضافة إلى نبش بعض القبور.
جريمة بشعة بحق الديانات وأولها الإسلام، ومن ينفذ تلك الهمجية وذلك الأسلوب الإجرامي ، غير آدمي وليس من البشر، ولا هو من الإنسانية بشيء.
رصيف ويلز
منذ سيطرة العناصر التكفيرية على مديرية التواهي تشعر بأنك في مديرية لا تقوم فيها قائمة للحياة, ويحتاج أهلها إلى كثير من الصلاة حتى يشعروا أنهم أحياء.
في هذه المديرية التاريخية يوجد رصيف “ويلز” في ميناء عدن المعروف بـ”رصيف السواح” والذي يعود تاريخ بنائه إلى العام 1905م، ويتميز بطرازه الجميل، وسقفه القرمزي الأخاذ، الذي بُني بنفس طراز بوابة ميناء مومباي، الهندية،هو الآخر كان هدفاً لمقاتلات التحالف، حيث وصلت نسبة التدمير فيه إلى 90%، وتحول سقفه البديع إلى حطام متناثر.
وحشية العدوان وداعش
نتيجة للوضع الأمني المهترئ في عدن، رفضت الجهات المسؤولة أن تطلع صحيفة الثورة عن حجم الدمار الذي لحق بآثار المحافظة، وبعد جهد جهيد وتواصل دام لأكثر من ثلاثة أيام تمكنا من إقناع أحد المعنيين الذي فضل عدم ذكر اسمه بالتجاوب معنا، حيث قال:
يا أخي باتت المواقع الأثرية والتاريخية بعدن تعاني من وحشية العدوان وداعش، فكثير من المواقع يتجاوز عمرها مئات السنين سويت بالأرض وأخرى نهبت.
وأضاف: للأسف الشديد حتى اللحظة لم نتمكن من حصر المواقع الأثرية والتاريخية التي دمرت ونهبت نتيجة غياب الدعم المالي الذي كان سبباً رئيسياً في عدم قدرتنا على النزول الميداني لحصر وتوثيق الأضرار.
حماية التراث
وفي تصريح سابق دعت المديرة العامة لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة يونسكو”إيرينا بوكوفا” كافة الأطراف في اليمن لحماية التراث الثقافي في البلاد، حيث أصدرت بياناً أوضحت فيه أن حماية التراث الثقافي تعد عنصراً حيوياً من أجل الحفاظ على هوية المواطنين وتاريخهم، والاستفادة من غناهم المتنوع، وبناء مستقبل سلمي.
وأشارت بوكوفا إلى أن “تراث اليمن الذي يعكس قروناً من الفكر الإسلامي، والحوار الغني يعد فريداً من نوعه، ،لذلك أدعو جميع الأطراف والدول المشاركة في العملية العسكرية، إلى بذل قصارى جهدهم من أجل حماية التراث الثقافي الذي لا يقدر بثمن ،وتجنب الأعمال التي من شأنها أن تستهدف التراث الثقافي، خلال العمليات العسكرية والضربات الجوية، وعدم استخدام الأبنية التراثية والمناطق التي تضم مواقع تراثية لأهداف عسكرية”.
جريمة شاخصة
قيل قديماً بأن التاريخ يصنعه المنتصرون، أما اليوم التاريخ يصنعه من يمتلك الطائرات والصواريخ يستطيع من خلالها كتابة فصل ومحو آخر..
إنها باختصار شديد تفاصيل الجريمة الشاخصة بوجهها القميء، ينذر بالكارثة التي توشك أن تطبق على محافظة عدن لتحيل التاريخ فيها أثراً بعد عين وهي الفاجعة التي يستعصي معها العقل على الإدراك ، والقلم عن الاختزال ..