مصالح قوم عند قوم مصائب
حنان الصرابي
” ضع الشخص المِناسب –بكسر الميم أي من يربطك به قرابة –في المكان المُناسب”
أقولها بكل مرارة هذا هو الحال باختصار.. هذه هي القاعدة الأساسية التي ترتكز عليها بلادنا في كل مؤسساتها ووزاراتها ومرافقها وحتى تعاملاتها، فمجاملة الأقارب والأصدقاء ومنحهم ما لا يستحقوه على حساب غيرهم ممن لهم الأحقية بات هو السائد ،فالأولى بالحقوق والتعليم والوظائف والخدمات الصحية وحتى الحياة الكريمة هم من يملكون الواسطة أو كما يسميه البعض(فيتامين و)..نعم الواسطة هذا الوباء الخطير والخبيث الذي تفشى واتسع نطاقه حتى عم كل مجالات الحياة في وطننا فلم يدع مكاناً إلا ونال منه حظاً وافراً…وباء جعل اليمن في تدهور وتراجع مستمر،جعلها (إلى الخلف در) في كل مناحي الحياة بسبب ضعف القدرة الإنتاجية… وباء سلب الحقوق من أصحابها ومنحها على طبق من ذهب لمن لا يستحقها …وأعطى أنصاف الكفاءات أو حتى من لا يملكونها أصلاً ما لم يحلموا به يوماً وأهمل في المقابل أصحاب الحقوق من المؤهلين ، المبدعين، ومن لديهم القدرة على النهوض بهذا الوطن المنهك، أهمل من يمثلون حاضر البلاد ومستقبلها الزاهر.
فالعدالة الاجتماعية، الكفاءة، الخبرة، المؤهلات، الإبداع كل هذه المفاهيم باتت بالية وقديمة طغت عليها الواسطة بل ومحتها تماماً فلا وجود لها في تعاملات الناس ولا في تقييمهم فمن لا يملك الواسطة ببساطة لا يملك حياة كريمة ولا حقوقاً ولا مستقبلاً ولا أملاً …من لا يملكها تتعطل حياته وأعماله ومعاملاته..من لا يملكها تذهب جهوده ومثابرته وآماله أدراج الرياح.
الواسطة في بلادنا باتت أقوى من أي قانون ومن أي ضوابط ولوائح فكل هذه مجرد شكليات أمامها لا يتم العمل بها ، قد تطبق هذه القوانين بحذافيرها لكن على أولئك الذين لا حول لهم ولا قوة.
لا أظن أن أحداً لم يلحظ وجودها في كل مكان في بلادنا فهي واضحة للعيان بل إن البعض يتفاخر بها فيتحدث أنه حصل على مراده عن طريق نفوذه أو أقاربه أو أصدقائه…فمثلاً نلحظ وجود الواسطة في المدارس فالطالب الذي يملكها تجده غالباً مدللاً من قبل المدرسين والمدرسات ويتم التغاضي عن أخطائه وسلبياته ، نلحظ المجاملات في درجاته وأحياناً إغفال أخطاءه في الامتحانات.
أيضا لا ننسى الجامعات فالمتقدمون من الطلاب لامتحانات القبول كل منهم يحلم بأن يظفر بمقعد داخل الكلية التي يحب الالتحاق بها, لكن نجد الأوفر حظاً ومن لهم الأولوية بالتسجيل والقبول هم من لديهم واسطة بغض النظر عن معدلاتهم أو اجتيازهم لامتحانات القبول فالامتحانات شكلية فقط مع المعرفة المسبقة بأسماء المقبولين في الكلية ، والحق يُقال بأنه قد يترك مجالاً للمجتهدين لكن في حالة واحدة هي إن كان العدد المحدد لم يكتمل بعد.
أيضاً بعد التخرج من الجامعة التي أخذت من الجهد والمثابرة والسهر ما أنهك الطالب يأتي عناء آخر هو عناء الأوائل في التعيين كمعيدين في كلياتهم، وكذلك الطلاب ممن لديهم الرغبة في مواصلة دراسة الماجستير والدكتوراه, فأمام هؤلاء خياران أحلاهما مر إما البحث عن واسطة قوية تكون هي الداعم أو أن يكون الطالب ثرياً ولديه من المال ما يكفي لتغطية نفقات الدراسات العليا، أما الاختيار المعمول به غالباً فهو الانسحاب والاكتفاء بشهادة البكالوريوس ومن ثم التوجه للبحث عن وظيفة ربما تكون سنداً لصاحبها تعينه في مواصلة الماجستير والدكتوراه فيما بعد. لكن هنا وللأسف الشديد يصطدم الخريجون بواقع محبط، مدمر لنفسياتهم وطموحاتهم ، واقع يجعل نظرتهم للحياة وللمستقبل سوداوية ، فلا قيمة لتلك المؤهلات التي يحملونها ما دام أنهم يفتقدون (فيتامين و) . فنجد أن جملة ” أنا من طرف فلان” هي جملة تغني قائلها عن السيفي والشهائد والمؤهلات والكفاءة والخبرة ، وتجعله أحق من غيره بالوظيفة وبدون شك سيظفر بها حتى وإن كان اقل بكثير من ناحية الكفاءة والخبرة من غيره من المتقدين ، سيظفر بها لضمان استمرارية توريث الوظائف داخل هذه المؤسسة أو الوزارة لبقية الورثة من الأقارب والأصدقاء، هذه الجملة تذلل الصعاب وتتلاشى أمامها القوانين وشروط الوظائف.
وللأسف لو قمنا بتقييم الموظفين بناءً على كفاءتهم واستحقاقهم لوظائفهم – فلا أبالغ – النتائج ستكون بمثابة فاجعة لأني أتوقع بأن ما يقرب من نسبة ثلاثة أرباع أولئك الموظفين سيكونوا بحاجة لإعادة تأهيل وتدريب قد يمتد لسنوات حتى يكون لهم الحق بالجلوس على تلك الكراسي ويكونوا أهلاً لتلك المسؤولية التي أُسديت إليهم وحتى يكون بإمكانهم أن يقدموا ولو الشيء البسيط لخدمة هذا الوطن فأنا أجزم أن هناك من الموظفين من لا يجيد القراءة والكتابة كما يجب فنجدهم يخطئون أخطاء إملائية فادحة وما خفي كان أعظم.
وللواسطة آثار سلبية مدمرة على الفرد والمجتمع, فمنها على سبيل العد وليس الحصر شعور الفرد بالظلم والغبن حين يُسلب منه حقه مما يولد لديه إحساس بالحقد والكراهية لغياب العدالة وقد يفقد الثقة بمن حوله ، كذلك تعتبر الواسطة سبباً في إضعاف سيادة القانون والقيم الأخلاقية والتراجع في التنمية والتطور وكذا تتسبب في حرمان الوطن من العقول النابغة والمنتجة ومن الكفاءات التي ربما تضطر للهجرة إلى الخارج للبحث عن فرصتها بعيداً عن الوطن مما يجعل اليمن يخسر مزيدا من أبنائه المثقفين، أيضاً لا ننسى أن الواسطة تهبط معنويات الأجيال مما يدفعهم إلى عدم التحصيل العلمي وعدم المثابرة والاجتهاد وتطوير الذات فقد ترسخ لديهم اعتقاد بأن مصيرهم سيكون كمن هم من قبلهم ممن يتسكعون في الشوارع وفي مقايل القات بسبب البطالة التي لها نتائج سلبية فتاكة فهي تسهم إلى حد كبير في تفشي الفساد وانتشار الجريمة “كالسرقة والقتل والانجرار خلف رفقاء السوء” والتي تكون نتيجة عدم الرضاء والشعور بالعجز والاكتئاب بسبب الضائقة المالية والضغوط النفسية.
ولا ننسى هنا أن ديننا الحنيف قد أوصى بالعدالة والمساواة بين الناس, فالناس في نظر الإسلام وإن اختلفت ألوانهم وأنسابهم سواسية كأسنان المشط في الحقوق والواجبات وهذا عكس مفهوم الواسطة الذي يحق الباطل ويبطل الحق وفيه نوع من الظلم العظيم والتعدي على حقوق الآخرين الذي نهى الله عز وجل عنه حين قال في كتابه الكريم “ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين”
ولا أبالغ إن قلت إن الواسطة قد تزهق بسببها أرواح البعض إما من أولئك الذين يعانون من أمراض مستعصية وخبيثة ويتطلب علاجهم مبالغ مالية باهظة أو سفرا إلى الخارج لكن يد العون بعيدة كل البعد عنهم ولا تمد لهم لأن أصواتهم لا تسمع وسط ضجيج الواسطة ..أو من أولئك الشباب الذين وجدوا كل أبواب المستقبل الزاهر الذي طالما حلموا به وجدوها مؤصدة أمامهم فلم يكن أمامهم سوى طريق الجريمة والضياع والانتقام من أنفسهم ومن مجتمعهم والرمي بأنفسهم إلى التهلكة.
اختم مقالي بـــقوله تعالى (إن الله لا يغير ما بقومٍ حتى يغيروا ما بأنفسهم)
فعلاج هذا الوباء يحتاج إلى وقت طويل ربما يكون صعباً لكنه ليس مستحيلاً .فلو شعر كل شخص بأنه حين يتوسط ويجامل شخص على حساب آخر أنه بذلك الفعل يتعدى عليه ويظلمه ويسلبه حقه وأنه يهد لبنة من لبنات هذا الوطن الغالي, فالكل سيردع نفسه وسيكون ضميره أقوى تأثيراً عليه من أي قانون.