> ما يحدث اليوم في عدن وحضرموت ولحج وأبين لا يعبر عن الإجماع العام لمجتمعها
> البعد الإنساني للوحدة تجسد في إنهاء معاناة الأسر اليمنية في قرى التماس
إعداد/ محمد محمد إبراهيم
ما الذي يجري في يمن الثاني والعشرين مايو 1990م مهد العروبة، وأول منجز على طريق الوحدة العربية الشاملة.. ؟.. هكذا يصدح صوت العقل اليمني والعربي والإنساني.. وهو ينظر المشاهد النشاز في مسار الصف اليماني، من الشتات والتشرذم والتنافي العدمي، ويشاهد ما يجري في محافظات الوطن الجنوبية من تواجد أجنبي يرحب به ضعاف النفوس والزيغ السلطوي، في الوقت الذي يصفق فيه هؤلاء القلة لتصرفات عمياء وطيش أهوج ينتهج سلوك التهجير القسري ومحاولة استعادة ماضي الفرقة والصراعات القائمة على المناطقية والعنصرية المقيتة.. معيدين إلى الذاكرة الهوية اليمنية ، حمما من نيران التشطير بين الأسرة اليمنية..
في هذه المادة سنتحدث عن البعد الإنساني للوحدة واليمنية التي كانت وما تزال وستظل هي البلسم الشافي لمثل هذا المرض الدخيل، وهي قارب النجاة لكل اليمنيين في الداخل والخارج.. من خلال استعادة أبرز ما عاناه الإنسان اليمني في زمن التشطير البغيض من عذابات وفرقة واقتتال.. لكن قبل ذلك سنعرج على ما يشهده المسار الوحدوي اليمني في هذه الظروف الصعبة ومن تحديات وأحداث مؤسفة.. وما هو العلاج الأمثل لها.. ,… إلى التفاصيل ..
«حين فشل المخطط (الصهيوأمريكي) عبر أدواته في الخليج، في زرع الفتنة الطائفية بين أبناء المجتمع اليمني، بفعل التاريخ العريض من التعايش المذهبي والديني، اتجه نحو إذكاء ما هو أخطر في نظره، وهو العنصرية والمناطقية المقيتة، فأوعز إلى عملائه أن يقوموا بتهجير قسري للأسر الشمالية في عدن وما جاورها.. غير أن هذا المخطط سيفشل، ليس لعمق هوية الترابط اليمني جيلاً بعد جيل في كل مدن اليمن شمالها وجنوبها وشرقها وغربها فقط، بل أيضاً لأن هذا السلوك العنصري المشين لا يعبر عن السواد الأعظم والإجماع العام لمجتمع عدن أو حضرموت أو الضالع أو لحج، أو أي محافظة يمنية..» هذا ما قاله أحد أبناء عدن (سبعيني العمر- يسكن في صنعاء منذ السبعينيات حسب قوله.. ) ونحن نتحدث عن صور ومشاهد ذلك السلوك.. لا أعرف اسمه لكن أعرفه وكثيرا ما التقينا حيث يبدو بشعره الكث الأبيض رجلاً مثقفاً سياسياً ويتحدث من واقع معايشته للأوضاع التي مرت بها اليمن بشطريها الشمالي والجنوب، مؤكدا ان عدن كانت وستظل هي أبرز مدن التعايش اليمني بل والإنساني، وكما كانت صنعاء وما تزال هي ملاذ كل اليمنيين في الظروف الصعبة، وظروف التصفيات التي شهدتها عدن والمحافظات الجنوبية..
ذرائع الاحتلال
في كل مرة يأتي الاحتلال الأجنبي بذريعة لاحتلال عدن.. فقد احتل البرتغاليون عدن في 919هـ الموافق 1515م بذريعة تأمين خطوط التجارة في البحر الأحمر من توسع الشراكسة الذين كان يسطرون على عدد كبير من جزر البحر الأحمر ويحاولون الوصول إلى سقطرى، بعد احتلال اليمن وإنهاء عهد الدولة الطاهرية.. واحتل العثمانيون عدن تحت ذريعة الخلافة الإسلامية لدحر الغازي البرتغالي في 26 فبراير 1548م.. واستعمرت بريطانيا عدن تحت ذريعة الانتصار للسفينة الهندية «دريادولت» الجانحة على سواحل عدن، والتي تحمل علم بريطانيا في 19 يناير عام 1839م.. وتوسعت بعد ذلك ودام الاحتلال أكثر من 130 عاماً، ذريعة الاحتلال السعودي الأمريكي هذه المرة جاءت تحت مسميات الترتيبات الأمنية، وتحت غطاء الاتهام العلني لأصحاب البسطات والمحال التجارية بالتفجيرات، وهذا مبرر أقبح من الذنب الذي يرتكبه عملاء العدوان، فمن يصنع الإرهاب والتطرف هو من يريد الاستيلاء على مقدرات اليمن، ويستهدف وحدة اليمنيين، وتشتيت عرى هويتهم الواحدة بداء العنصرية والمناطقية.. لكن ليس بمقدور أي قوى معادية أو عميلة.. فوحدة الهوية اليمنية ثابتة وضاربة جذورها عبر التاريخ..
وهذا ما ألمح إليه محافظ عدن السابق أ.د/عبدالعزيز صالح بن حبتور واصفا قضية التهجير القسري المَقيت لباعة الخضار والفواكه والباعة المتجولين وعمال البناء بالفضيحة الأخلاقية.. مؤكداً أن ما يحدث في عدن من انعدام للأمن، والاغتيالات للمسؤولين العسكريين والأمنيين هي حوادث شبه يومية وتُقيد ضد مجهول ، وتعثر تقديم خدمات الكهرباء، المياه، الدواء لأهلنا بعدن الجريحة، وما شاهدناه من ترحيل مقزز لإنسانية اليمنيين، وانهيار كلي لمؤسسات الدولة وأركانها هي من إفرازات الاحتلال السعودي الإماراتي المُباشر لعدن الآن، والحمدلله دخلت الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا “العُظمى” على خط المحتلين الجدد لجنوب اليمن.
هكذا يرى العقلاء تلك التصرفات مؤكدين أنها لا تعبر عن الإجماع العام لأبناء عدن أو غير عدن وإنما تعبر عن قلة عميلة، تبحث عن المال والسلطة، لكنها آفلة وفي المستقبل القريب، والنصر دوما للوحدة اليمنية..
وفي هذا الصدد يقول بن حبتور: ليس هناك حل ناجع للقضية اليمنية الداخلية سوى مبدأ الحوار الذي انطلق قِطاره في دولة الكويت الشقيقة وندعو الله العلي القدير أن ينجح، أما ما عداه فلكم أن تتذكروا مصير كل الغُزاة الأجانب من الأحباش والفرس والعثمانيين والبرتغاليين والبريطانيين فقد هُزموا ولا عزاء في هزيمة المحتلين الجدد..
«قرى التماس»
وبالعودة إلى ذاكرة الماضي يكفي ما عاناه اليمنيون في قرى التماس المحاذية للحدود الشطرية المصطنعة في سنوات التشطير، سواء بشهادات أجانب روس ومنهم كبير المستشارين العسكريين السوفييت في سلاح المدرعات العقيد يفغيني تشيرنيشوف الذي شارك في العمليات الحربية على الحدود مع اليمن الشمالي كبير المستشارين الروس الذي تحدث عن إحدى قرى البيضاء التي دمرت بالكامل أثناء حرب 1972م.. أو تلك الشواهد الحية لقصص الأسر التي كانت تذهب من كرش إلى صنعاء لتحصل على تأشيرة سفر إلى كرش نفسها لزيارة أقاربها في كرش نفسها ولكن خلف لعنة السياسة والتشطير (البرميل) ولو بأمتار لا تتعدى الخمسين متراً.. كانت قصصاً مؤلمة وموجعة أيضاً أن يتهرب تحت جنح الظلام والرصاص، والاتهام بالعمالة والخيانة، من قرية في ميكراس الجنوبية إلى صنعاء ليذهب إلى الخليج ببطاقة هوية يمنية لا تحدد منطقته حتى يذهب إلى الخليج للبحث عن فرصة عمل.. وغيرها من التفاصيل التي لا يتسع المقام لشرح هذه التفاصيل..
ولكن يمكن استعادة قصة نقاش دار في إحدى مناطق التماس، فمع مجموعة من أبنائها (كبار متوسطي السن) حظينا بوقت قصير من النقاش الجاد في مقيل المناضل العميد/ محمد عبد ربه جحلان مدير مديرية مكيراس محافظة البيضاء- حينها-.. كان النقاش يدور حول أوضاع المديرية بعد سنوات الوحدة وبعد الحديث معهم خرجت راجلاً (أثناء زيارتي لها في 2008م) لمسافة طويلة -نوعاً ما- على الخط الأسفلتي باتجاه مدينة البيضاء وعلى جانبي الخط شعرت وأنا أنظر إلى قرى ومنازل مديرية مكيراس برهبانية انجاز حقيقي صار فخراً لكل يمني بل لكل عربي أصله من اليمن ، وهناك وبين قريتين عتيقتين كانت شرارة الفتنة رابضة بين فاصل يفرق خطي تماس كلما اقترب البشر منهما ، صاروا ضحايا قطبين متضادين تفصلهما طبول الحرب ، وتهمة مستوردة في علب التفرقة والتمزيق التي صدرتها للشعوب العربية ترسانة المستعمر الأجنبي العسكرية والثقافية والفكرية، هذه التهمة تلصق بكل من اقترب من خط التماس بماعزه –راعيا- أو بلهفة أشواقه لقريب يسكن في المنزل المقابل مصدرة عليه حُكمين كلاهما مر إما جاسوس لصالح أحد الطرفين فيسحب إلى السجون أو التحقيق, أو خائن أفرغ جعبة الأسرار – الخطيرة حينها- لدى الطرف الآخر فعاد على تراجيح مشنقة تنتظر وطنيته وحياته معاً..
أما عامل الزمن الذي يشهد على القرابة بين أسرتين فصلتهما سنوات التشطير لا يملك أن يغفر لأحد الأقارب من السفر إلى عدن أو إلى صنعاء لمتابعة مصلحة الجوازات ووزارتي الداخلية والخارجية في كلاً الطرفين حينها لأخذ إذن تجاوز بضعة الأمتار للوصول إلى قريبه في المنزل المقابل لبيته – فقط لأنه خلف خط دولي آخر- ولن يحصل على هذا الحق إلا في حال كانت الأوضاع السياسية مستقرة بين الطرفين وأحيانا يستغرق الوضع أشهراً حتى يحصل صاحب الحق على إذن الزيارة.. وهذا التعقيد ما شرحه لنا بعض الذين جلسنا معهم في مقيل المناضل العميد محمد جحلان مدير المديرية الذي شرح تفاصيل ومعاناة المواطن اليمني في المديرية كواحدة من المديريات الحدودية خلال سنوات البؤس التشطيرية.
إنهاء المعاناة
كانت الوحدة اليمنية التي ولدت من مخاضات الكفاح الوطني في يوم الـ(22) من مايو وحده الذي كسر حاجز المستحيل وحول خط التماس المكهرب بالعداوة والتفرقة إلى قلب ينبض في جسد الخارطة اليمنية وهناك في مكيراس كواحدة من مناطق خطوط التماس تشعر بلا شك وبلا مواربة ماذا تعني الوحدة اليمنية على الصعيد الجغرافي والاجتماعي والأسري.. ومن خلال ملامح الساكنين النقية وأحاديثهم الصادقة تشعر أن الوحدة كانت حلماً فصارت واقعا وكان غيابها مأتماً في كل صباح وأضحى وجودها فرحاً لا يبارح القلوب.. ومهما بلغت الأزمات باليمن الموحد تشعر أن هذه المناطق بأبنائها الذين خبروا التشطير معاناةً هم أكثر من غيرهم يشعرون بمكانتها الحقيقية وخيرها الكبير كمسب وطني وقومي.. وهذه أبرز ملامح البعد الاجتماعي للوحدة اليمنية المباركة لكننا قبل الحديث عن الأهمية الثقافية والسياسية والاقتصادية للوحدة سنعرج على عوامل الرغبة المنطقية الداعية للوحدة اليمنية المباركة جغرافيا وأزلياً، مع إشارة لما كان يدور من جهود في الأشهر القليلة التي سبقت الوحدة المباركة.
التعددية السياسية والديمقراطية
هذا بالنسبة للعلاقة القائمة بين الأرض والسياسة والاقتصاد والأهمية الإستراتيجية التي مثلتها الوحدة اليمنية على خارطة الأرض والإنسان والاقتصاد لكن هناك بعداً سياسياً آخر انعكس على التنمية يتمثل في وقف نزيف الصراع الدائر بين الجانبين واتجه الجميع بفعل الوحدة التي انهت كل تلك الصراعات إلى العمل نحو بناء الوطن الواحد في كل مجالات الحياة التنموية .
سياسياً أيضاً شكلت الوحدة اليمنية محطة استثنائية وفريدة لم يسبق وإن حدثت في أي بلدٍ عربي أو إسلامي وهي التعددية السياسية والحزبية وحرية التعبير فكراً وممارسةً وشهدت اليمن محطات انتخابية عديدة شهد لها المجتمع الدولي.. واتجهت القوى السياسية الفاعلة نحو تحديث الصيغ الدستورية والقانونية للمشاركة السياسية في اليمن وصولاً إلى مشاركة الأحزاب والتنظيمات السياسية في الانتخابات البرلمانية الأولى للجمهورية اليمنية في 27 إبريل 1993م وما تلاها من مرحلة الائتلاف الحكومي الأول والنتائج والأزمة السياسية وأثرها السلبي على الحياة العامة في اليمن.. لتأتي بعدها مرحلة المؤسسات الدستورية الحديثة (كالأحزاب والتنظيمات السياسية ومنظمات المجتمع المدني) التي قطعت شوطاً متقدماً في عملية التحديث السياسي والاجتماعي من خلال استيعاب القوى التقليدية التي مازالت فاعلة في المجتمع اليمني المعاصر، ونستطيع القول بأن القوى التقليدية لم ترفض قيم التحديث الاجتماعي والسياسي بل طالبت به من خلال مختلف الفعاليات التي نفذتها القبائل اليمنية وهنا ينبغي على تلك المؤسسات الدستورية أن تعمل على توظيف هذه الولاءات لتنمية الولاء الكلي لليمن خدمة للصالح العام، وهذا الاتجاه سيجعل كل تلك المؤسسات مقبولة ومرغوبة في أوساط الجماهير بشكل أكثر وأن تعتمد على العناصر الأكثر تأهيلا..
البعد الثقافي والانساني
ثقافياً وإنسانياً تظل الوحدة هي مصدر التنوع الهائل الذي مثل الكاريزما الحقيقية للهوية الوطنية بثرائها الكبير والذي تجاوز البعد القومي العربي إلى البعد الإنساني الثقافي التراكمي عبر المحطات التاريخية التي عاشتها اليمن مشكلة بؤرة إنسانية حضارة وفكراً وعلاقات مع الأمم الغابرة.. «واليوم والوطن اليمني يلج عامه الحادي والعشرين موحداً يمكن القول أن الوحدة اليمنية على الصعد الثقافية المختلفة قد أحدثت واقعاً جديداً في المجتمع اليمني كان طبيعياً لعودة اللحمة إلى وطن تجزأ بفعل الاستعمار في الجنوب والإمامة المتخلفة في الشمال فكان أبرز معالم ذلك الواقع الجديد اكتمال الذات والشخصية الوطنية وما تولد عن ذلك من شعور قوي بالانتماء لوطن اتسعت أرضه وبرزت شخصية مواطنيه بقوة محلياً وإقليمياً ودولياً.
كما يلاحظ أن نقلة تاريخية جديدة في المجتمع اليمني قد بدأت تتشكل، أبرز معالمها تلك النهضة الفكرية والسياسية والصحفية التي تعد بمثابة نتيجة منطقية لرديف الوحدة اليمنية المتمثل في الديمقراطية والتعددية السياسية وحرية الصحافة, واحترام حقوق الإنسان, وما أحدثته هذه المفاهيم من تغيرات إيجابية في بنية المجتمع اليمني فكرياً وثقافياً.
لقد ترسخت مفاهيم جد متقدمة في واقع المجتمع اليمني وأصبحت الانتخابات المنتظمة لمجالس النواب أمراً مألوفاً وأساسياً في الحياة اليمنية كذلك الحال في انتخابات المجالس المحلية وصولاً إلى انتخاب أعلى هرم في السلطة السياسية, رئيس الجمهورية.. وقد جرت كل تلك الانتخابات في أجواء من الحرية وبإشراف مراقبين من الداخل والخارج أقروا بنزاهتها ومصداقيتها.
شعبياً وجماهيرياً ترسخت ثقافة ثبوت الوحدة وتحولها من حلم من منشود واقع يغمر الناس ببهجة العرس الواحد والفرحة الدائمة .. وتحولت من منجز تحقق بفعل التضحيات, التضحيات الوطنية لكل أسرة يمنية إلى أبرز الثوابت الوطنية التي لا ولن يدخل في أي مساومات أياً كان نوعها على اعتبار « أنها ليست ملكاً لشخص أو جماعة أو حزب أو تنظيم سياسي بل هي ملك للشعب اليمني كله هو من سعى لتحقيقها وهو من استفاد منها, وهو – أي الشعب اليمني – من اكتوى بنار التشطير ومن استعاد عافيته بتحقيق الوحدة.. والحال كذلك لا يمكن أن نتصور أن أي مواطن في الجمهورية اليمنية من أقصاها إلى أقصاها لا يريد الوحدة ويرغب في عودة التشطير والتجزئة للوطن اليمني وإن وجد من يدعو إلى ذلك فإنه لا محالة غير سوي وفاقد صوابه أكان ذلك فرداً أم جماعة أم حزباً سياسياً فذلك لا يدخل في منطق العقل ولا يمكن أن يقبله التفكير السليم أن تبرز جماعة أو أفراد أو أحزاب بنغمة شاذة تريد عودة التجزئة والتشطير للوطن بحجج بعيدة كل البعد عن المنطق السليم ومفهوم الوحدة السامي والواقع المعاش الذي يعيشه الوطن اليمني فذلك أمر غير مقبول جملة وتفصيلاً ويجافي منطق الحق والعقل السليم ويدخل في إطار التهريج والوقوف ضد المصالح العليا للوطن اليمني في الوحدة والتآلف والتآزر وتحقيق التماسك الاجتماعي.. فالوحدة اليمنية أصبحت متجذرة في الذات الوطنية وصار جيلها اليوم في عامه السادس العشرين وهي سن لا تقبل الوصاية أو التبعية.