الحرف المهنية .. قنطرة التنمية 1 – 2

أحمد يحيى الديلمي

* عندما زرنا سوريا وتركيا والمغرب اتضحت لنا أشياء كثيرة عن أسس النهضة الصناعية إذ تبين أن الصناعة تمر بمراحل أهم مرحلة فيها وجود القاعدة ممثلة في الحرف المهنية ، فالمصنع الكبير كما يقال بحاجة إلى أكثر من 300 ورشة تنتج المواد الأولية ، لذلك وكما حدث في دول اوروبية أخرى بدأت هذه الدول ببناء القاعدة وانتهت إلى إنشاء المصانع الكبيرة  التي تقتصر مهمتها على التجميع ، والتركيب النهائي للمنتجات ، هذه القاعدة يبدو  أننا غفلنا عنها ، إذ بدأنا رأسياً من خلال تبني مصانع كبيرة مثل مصنع الغزل والنسيج ، ولم تتوفر القاعدة الأساسية لمده بالخامات شبه الجاهزة ، وهكذا في كثير من الجوانب رغم أنه وكما قلت لاحظنا في سوريا الشقيقة قبل اندلاع الحرب الظالمة أن السوريين ينتجون في الدكاكين وفي سطوح المنازل لكي يوفروا الخامات الأساسية للمصانع وبذلك تنطلق النهضة الحقيقة كما حدث في كل من تركيا وسوريا والمغرب ، هذه البلدان التي شاهدتها بنفسي ولعبت فيها معامل الإنتاج الأولية دوراً أساسياً ، أما تجربة الصين فهي لحالها فلقد تمكن الصينيين من السيطرة الكلية على الكثير من الأسواق بهذه الطريقة التكاملية ، إذ تبدأ العملية بمعامل إنتاج صغيرة لا تحتاج إلا إلى بعض الأدوات والمواد الخام الأولية ، والإنسان أهم عنصر من عناصر الإنتاج ، أما نحن وللأسف الشديد فقد أنشأنا وزارة بذاتها أسميناها وزارة التعليم المهني وأنشأنا العديد من معاهد التدريب والتأهيل المهني وكليات المجتمع وكل خريجيها يقفوا طوابير أمام وزارة الخدمة المدنية للبحث عن وظائف ، في حين كان المفترض أن يوجه هؤلاء للعمل الذاتي ويتم تمويلهم من خلال مؤسسات التمويل المتعددة ، ومنها بنك الأمل وفروع التمويل الأصغر في معظم البنوك التي للأسف حتى الآن لم تتجه لتمويل المشاريع الإنتاجية ويقتصر دورها على تمويل مشاريع خدمية لا تسمن ولا تغني من جوع ، بينما يظل الإنتاج آخر شيء نفكر فيه ، وهنا تكمن المشكلة فلو اتجه الجميع نحو بناء ورش إنتاجية صغيرة بقروض ميسرة من خلال هذه المؤسسات التي وجدت فعلاً وأصبح وجودها عبئاً على الاقتصاد الوطني ، لأنها في ظل السياسة العمياء لا تقدم ولا تؤخر ولم تحقق أية إضافة للاقتصاد الوطني ، وهذا يدعونا إلى الأسف والمطالبة بأن يتم تبني سياسة عملية تستوعب كل خريجي مراكز التدريب والتأهيل المهني وكليات المجتمع في ورش إنتاجية تؤهل لقيام مصانع حقيقة ذات أبعاد اقتصادية مؤثرة وجالبة للأموال حتى من الخارج ، فكما قال مهندس الاقتصاد اليمني المرحوم الأستاذ/ محمد عبدالوهاب جباري ، نحن محاطون بدول التخمة الخليجية التي تتأفف عن الصناعات الصغيرة وتتباهى بوجود صناعات كبيرة ، ومن ثم فإنها ستكون سوقاً رائجة لما ننتجه من هذه الوسائط التي إن ركزنا عليها وأوجدنا خاماتها فإننا سنصل إلى نتيجة إيجابية هامة ، لأن هذه الدول الآن تتبنى صناعات تحويلية ، وكل الخامات الأولية نصف المصنعة تستقدمها من الصين وتايوان وماليزيا وغيرها من الدول التي اتجهت إلى هذا الميدان ، ونحن كما قلنا تتوفر لدينا كل العناصر اليد العاملة ، الخامات الأولية ، مصادر التمويل ، إذاً أين الخلل ؟
الخلل يكمن في عقولنا نحن لأننا لا نفكر إلا من الأعلى لا نبدأ من القاعدة وهذه أصعب مشكلة تواجه اقتصادنا الوطني وهي أساساً محور البطالة الكبيرة جداً التي باتت تثقل كاهل البلد والمواطن بحيث ارتبط تفكيرنا بشيء واحد وهو أن نبحث عن منفذ لخروج المواطن إلى السعودية أو الخليج  للبحث عن عمل ، وهذا ما يجعلنا نواجه الكثير من المشاكل فاليمنيين يقتلون في الحدود بطرق بشعة ولا إنسانية كما حدث لأولئك الذين تم إحراقهم قبل فترة في منطقة الأطراف مع السعودية لأنهم حاولوا التسلل إلى المملكة بهدف البحث عن عمل ، وكانت الطريقة مقززة ومفزعة تؤكد لاإنسانية الآخر وعدم حرصه على حق الجوار ، وعدم مراعاته لمشاعر الأخوة الإسلامية ناهيك عن العربية ، المهم أننا نحن من تسببنا في مثل هذه المآسي وأمامنا الكثير من الفرص التي نضيعها ، كان المواطن بل أغلب المواطنين في الماضي منشغلين بالزراعة والإنتاج من الأموال إلا أن فكرة التمدن ألغت هذا المصدر وجعلته من المصادر غير المدرة للربح ، بعد أن شجعنا الهجرة إلى المدن وإقفار الريف تماماً ، فالمواطنون كلهم الآن يتزاحمون في الجولات للبحث عن عمل في صنعاء ، وكم سيكون جهد صنعاء في ظل غياب القاعدة الاستيعابية القادرة على تشغيل المئات بل الآلاف من هؤلاء الناس الذين قصدوا المدن للعيش فيها ، ويا حبذا لو وجدت خطة عملية لا تمول إلا المشاريع التي تقام في الريف بحيث نوجد للمواطن حافزاً يعود إلى منطقته لكي نخفف على المدن من الازدحام الكبير ، ونعيد للريف رونقه ودوره المشرف في رفد الاقتصاد الوطني ، فإذا عاد المواطن إلى قريته لن يقتصر تفكيره على الإنتاج المهني فقط ، بل وفي ظل عودة موسم الأمطار لله الحمد والمنة إلى ما كان عليه ، سيعود لزراعة الأرض وإنتاج أهم شيء وهو الحبوب ، في هذا الجانب أود الإشارة إلى نقطة ، كان المرحوم الشهيد إبراهيم الحمدي قد صعق ووقف شعر رأسه حينما علم أن استيراد اليمن من القمح وصل إلى (380) ألف طن في تلك السنة ، بينما كان الإنتاج المحلي يغطي بقية الاستهلاك ، فكيف سيكون حاله لو قام اليوم ووجد أننا نستورد أكثر من  مليوني طن من القمح بل وتعدينا القمح باستيراد كل الحبوب الدخن ، الذرة ، الشعير .. إلخ نستورد من الخارج بلا استثناء حتى البطاط و الثوم والبن والقشر وكل الذي كنا ننتجه في هذه البلاد أصبح يستورد من الخارج ، والجميع يتفرج بدعوى شحة الأمطار حتى السدود التي أقيمت في كل منطقة لم تتم الاستفادة منها بالقدر الكافي ، وأعتقد أن ارتفاع أسعار المشتقات النفطية ضاعف المأساة وإذا استمر الحال على هذا المنوال فإننا سنصل يوماً إلى استيراد كل شيء بما في ذلك البقل والكراث والخيار والبيبار التي لا تزال تهامة ترفد السوق بها وبطريقة فعلاً مقلقة ، لأن المزارع يخسر كثيراً ولن يتحمل مثل هذه الخسائر ، المهم أن البداية عندما نقيم ورش الإنتاج المهنية في الريف فإننا بذلك سنعيد للريف مكانته ودوره ، وللموضوع بقية إن شاء الله..

قد يعجبك ايضا