الغربي عمران
هل النص الأول أو الصفحة الأولى يحدد لدى القارئ جودة العمل الإبداعي من عدمه, أو بالأحرى هل نستطيع تمييز العمل الإبداعي من أول فقرة ؟ أن نستدل على مستوى بقية النصوص؟
أتساءل بعد أن تعددت منابر النشر.. وذلك تنوعت الإصدارات السردية.. لترتفع أصوات تعيب على المتابع من الكتاب والنقاد عدم تناولهم لتلك الأعمال بالنقد.. وأرى بأنهم على حق.. فالنقد في اليمن مصاب بكساح .. وما تعدد الجامعات وتكاثر كليات وأقسام الآداب في بلادنا إلا أشكال دون مضمون. وكأن الأدب عنهم في غربة. وصدق من قال علينا بتوجيه التعازي يوم مناقشة الدرجات العلمية لمن يحصلون عليها.. كون من يحصل عليها يكتفي بحرف الدال. ليرتكن إلى الدرجة التي أنعم بها المشرفون عليه ولا نحسبه بعدها إلا ميتا ميتة سريرية دون نشاط إلا ما يشابه حركات الطاووس في خيلائه.
قد يتبادر إلى ذهن القارئ أنني هنا من دعاة التسلط . وعذري ما ذكرته أنني صادق .. فحملة الدكتوراه في الآداب كثر .. ولكن عجزهم عن تناول أي عمل أدبي يثير فينا التساؤل لنحسب تلك الدرجات منحاً وفاقد الشيء لا يعطه.
ولا أدعو هنا لنصب المحاكم للكتاب.. ولا توجيه السهام إلى النص كما لو كنا في حفل تشهير بعيدا عن تلمس جمالياته. ويكفي من نقادنا الأكاديميين أن يتناولوا كتحية لكل إصدار جديد بعض صفحاته.. وكما ذكرت سابقا إن كان العجز يسكنهم يكفي الصفحات الأولى ليتحدثوا عنها.
تعددت وسائط النشر ومنابره وهذا من الروعة بمكان, ما يتيح الفرصة لكل من يتنفس إبداعا أن يتنفس بحرية ودون موانع. إلا منابر الجامعات تلك التي يكسوها العجز.. ويسكنها رهبان لا يملكون من أدوات النقد ومناهجه ما يعينهم على قول شيء يذكر.
وككتاب نتابع بشغف ما يعتمل في مشهدنا الثقافي . ونثمن تلك الأعمال الإبداعية والنقدية . ونقدر الأعداد المتزايدة من الأقلام الشابة الواعدة.. وتلك الكتابات التي يخطونها تباعا. إلا أن سهولة النشر ساعد على ظهور كتابات يخطها كتابها دون فهم أو وعي لما يكتبون خاصة تلك التي تطالعنا على صفحات الفيس بوك, حيث نجد مقالة وقد صنفها كاتبها بالقصة القصيرة, أو القصيدة .. وقد تجد من يكتب دفقا وجدانيا.. ويقدمها كاتبها كنص شعري, أو كلمات لا تخرج منها بأي معنى أو إحساس .. قد أكون مخطئاً لكني أجد أن النص الإبداعي الحق هو ما يدهش القارئ وما يأخذ بلبه, ما يجعله يقف متأملا وقد أوحى له بالكثير من الدلالات والمعاني. إضافة إلى براعة الكاتب في الجوانب الفنية.. فلا يكفي المعنى دون فن.
بين يدي مجموعة قصصية صادرة حديثا عن دار النابغة في القاهرة “تقاصي” وهو الإصدار الأول عربيا بعد عدة إصدارات سردية صدرت في صنعاء للقاصة المثابرة أسماء المصري, نصوص المجموعة جذبتني من أول صفحاتها .. لبراعة الكاتبة في نسج نصوصها بأسلوب مشوق.
بداية بأحد نصوص المجموعة (همسة) وهو النص الفاتحة .. لم يتجاوز السطرين , لكنه نص لافت بما يحمله من دلالات , يقول النص “أيتها الشمس, إني وإياك في أمر عجيب.. إن ابتعدت عنك شعرة.. تجمدت. وإن اقتربت منك شعرة.. احترقت. أتعلمين..؟ بي رغبة في الاحتراق” نص يدعو القارئ لإعادة قراءته واستبطان دلالته .. بل ومتعة الغوص في متون قد تنشأ مما يوحي به النص. فالشمس دفء وعطاء.. في الوقت الذي تحمل فيه الفناء الكامل.. هنا تم استخدامها كرمز للمحبة.. مع ما يحمله الحب من مخاطر.. فالشمس واهبة الحياة وفي القوت نفسه في نواتها جحيم لا يتصور. الكاتبة وضعت شخصية النص بين أمرين لا ثالث لهما كما اتباع بما تقوله إحدى قصائد نزار قباني.. “لا توجد منطقة وسطى بين الجنة والنارِ” وكأنها تتفق معه على نقيض قول المعتزلة بوجود منطقة بين المنطقتين في مسألة الكفر والإيمان. إذاً النص الرائع يقودنا إلى عوالم مختلفة .
بعد هذا النص أبحرت مع بقية النصوص الذي قارب بعضها الألف كلمة, وبعضها مجموعة أسطر.. قدمت الكاتبة من خلالها أفكاراً ومواضيع جديدة مبتعدة كعادتها عن الذاتية . على عكس كثير من كاتباتنا وكتابنا الذي يظلوا حبيسها في جل أعمالهم. وكذلك ابتعدت عن نقل الواقع معتمدة على خيالٍ يدهش, ونحن كثيراً ما نصادف كتاباً ينقلون وقائع عاشوها أو سمعوها ولا يجربوا استخدام خيالهم.
مجموعة المصري تدفع بالقارئ إلى التأمل من ناحية الموضوعية, فتلك الجمل تمثل مفاتيح ومسارب إلى آفاق من التأويل والتحليل .. وهذه قمة المتعة ..إذ أن النص الإبداعي الذي لا يصطحبنا إلى عوالم موازية لا يستحق القراءة .
وفي مقاربتي هذه أكتب حول ما بين يدي بعد قراءتي للإصدارات السابقة للكاتبة لأجد أن أسلوبها من عمل إلى آخر يتجدد ويتطور .. ولذلك أجد أن آخر ما قرأت من أعمالها يدعوني أن أكتب .. كونها نصوصاً ناضجة موضوعيا وفنيا, إلا أني سأركز على الجانب الموضوعي, ولن أتناول الجانب الفني التي يستحق تسليط الضوء عليه.. كون حيز النشر في صفحات صحفنا لا تحتمل.
نص (الطاولة) لحظة قراءته دفعني لأن أبتسم كوني وجدت نفسي قي متن النص, ذلك الدكتاتور المتسلط يشبهني, وأنا على ثقة أن كل قارئ سيشعر بذلك لما نقترفه من ثقافة التسلط ولا رأي يعلو فوق آرائنا .
خمستهم يعقدون أول اجتماعاتهم ليتحدث الرئيس-رئيس الفريق- طوال الاجتماع دون أن يترك مجالا لبقية المشاركين, لينتهي الاجتماع ولم يكن غير صوته يجلجل. وفي الاجتماع اللاحق تغيب البعض ليفتتح الرئيس الاجتماع ويتكلم حتى النهاية, ولم يسمح لأحد بإبداء رأيه. وهكذا يتناقصون اجتماعاً بعد آخر حتى كان اللقاء الأخير حين وجد نفسه مع صمت وحدته ولم يجد من يستمع إليه!.
أعدت قراءة النص وأن أشعر بأن الكاتبة تقصدني! ولذلك ضحكت ساخراً من نفسي. طرأت لي فكرة أشراك أحد الأصدقاء في قراءة النص.. وما أن أكمله حتى قال “أنا من يقصدني النص!” . همست لنفسي :إذاً هو نص فاضح للنفس. لكني بالفعل ثرثار ومتسلط. آليت على نفسي أن أراقب حديثي وأفسح المجال لغيري, صحيح كم أنا ثرثارا. مستحضرا مشاهداتي للقاء رئيس الجمهورية.. الوزراء.. رؤساء ورئيسات المنظمات الأهلية .. حتى الأم والأب بداخل بيوتهم, لأجد بأننا مجتمع أفراده متسلطون ؟ كل فرد يؤمن بأن لا غيره يملك الحقيقة .. الجميع يحبون أن يتحدثون ويتحدثون ولا يشعر أي فرد بأن ذلك سبب بلاءنا وتخلفنا.. بل وسبب كل تلك الحروب . كلنا كائنات غريبة هذا ما يشير إليه النص نظهر عكس ما نحمله.
فكرة النص رائعة.. حين يوضح كم نحن غير ديمقراطيين.. وأن كل منا ديكتاتور ومتسلط صغير مهما حاولنا أن نظهر عكس ذلك.
واسأل نفسي.. وأسأل القارئ.. لم نتعجب على حالنا وحاضرنا , بل علينا أن نتخيل مستقبلنا وكيف سيكون ونحن هكذا كل لا يرى نفسه إلا الكامل والبقية ناقصون؟ كل فرد هو الفاهم وهو العالم وهو الوطني وهو الشريف وغيره خونة ولصوص ولا يفقهون شيئاً. أليس هذا قمة الفساد الأخلاقي؟ هذا ما يلوح به النص ويفصح ويقول لنا بأن ذلك تاج على رؤوسنا , غرور وتسلطه والإدعاء .
نص ثان بعنوان (ضفدع الأمنيات) النص خيالي .. حكاية شخصيتها المحورية نملة تحلم بأن تتحول إلى فراشة تطير. وتظل تتخيل كيف سيستقبلها سكان الفضاء وقد أصبحت منهم .. وفجأة يتحقق حلمها وتصحو يوما وقد نبتت لها أجنحة . موضوع النص يقدم لنا جانباً آخر من الحقيقة.. فبعد أن حلقت تلك النملة في الفضاء الرحب.. لتفاجأ بأن سكان الفضاء (الفراش) يرفضنها .. بل ويحقرنها. لتعود إلى الأرض حزينة.. وكانت المفاجأة الأشد قسوة أن سكان الأرض (النمل) يرفضنها وينكرنها. نص خيالي ساحر. يفتح لنا نوافذ التأمل.. صحيح نحلم وفي الوقت نفسه نتحمل نتائج تحقيقه ونحافظ على جوهر كينونتنا.. مهما تغيرت أحوالنا.
نص ثالث بعنوان (رؤيا) فكرته قريبة من نص (الطاولة) حيث تدور أحداثه حول التغيير والثورة .. يشير النص إلى تذمر الجميع ونقدهم لكل وضع, نقد دون رؤية, النص يدفع بأخيلتنا إلى استحضار ما نتابع على القنوات الفضائية.. تلك الحوارات التي نعجب بها وقد أنبرى الضيوف إلى نقد كل شيء . وكذلك ما ينشر على صفحات الصحف من نقد .. وعلى صفحات التواصل الاجتماعي .. وفي مقايلنا وتفارطنا .. الكل ناقم ..الكل ناقد.. وكل فرد حين يتحدث يقدم نفسه الكمال والمثال الرائع. حتى إذا ما واجهنا الحقيقة لا نجد أي من تلك الآراء, ومتى ما تولى أحدنا أي عمل يظهر وجهه القبيح. ولا نجد من نقده شيء.. فهو السارق.. وهو المرتشي وهو الفاسد.. لنتساءل ما أبسط النقد وما أكذبنا.
هكذا تعري واقعنا تلك النصوص , لتغوص الكاتبة بنصوصها إلى أعماقنا المظلمة التي نحب دوما أن نخفيها. فحين أراد الموظف أن يقول لمرؤوسه لا . وقد وقف أمامه ليعلنها رفضا للخراب والفساد وقبل أن ينطق فاجأه المدير بقرار ترقيته إلى نائب مدير.. تلعثم أما تلك الصفقة التي أخرست جسمه وقلبه وعقله و كافة حواسه. لنطق بالثناء على مديره ويخلع عليه صفات الأمانة والنزاهة.
كلنا ذلك الموظف ..كلنا ننقد .. لكن مع أول اختبار نسقط..هذا ما يقوله النص, مهما أدعينا وتحدثنا, حين نوازن بين مصلحتنا الشخصية والمصلحة العامة سريعا ما نضرب بكل القيم عرض الحائط. هذا تريد الكاتبة قوله, بل ونغير جلودنا ونتهيأ لاستيعاب المتغيرات لنكون في طليعة الثوريين وطلاب التغيير لنضمن مواقع قد تأتي .. وهذا هو وضعنا دون قناع.
وهكذا بقية مواضيع مجموعة المصري:(لا أشبهني) نص المعلم الأجوف, ووأد قدرات الطلبة, محور يمس مانعيشه من بلادة وترد.. فلو كان لنا نظام تعليمي متطور لكان لنا معلم جيد, ولكنا نحن جيل التغيير لكنا رضعنا الفساد والجهل … ونص (أحمد المحظوظ) و(الأخرس) قصة الصفقات.. واختلال الموازين بين القوي والضعيف, حين ينقاد أفراد المجتمع وراء مصالحهم على حساب القيم والمبادئ .. ونص (كلمات) يدور في فلك دوامة الغيرة. حيث نعيش أعمق نصوص المجموعة, حمل هذا النص تيمة وجودية بها من العمق ما يجعل القارئ يقف ليقيم علاقته بمحيطة وأقربائه. وبكل الكون , فكرة لم تطرق ولم تعالج في أي نص سابق, ولأني لا أريد إلا أن يعيش القارئ ويكتشف براعة الكاتبة لحظات قراءة تلك النصوص .. لا أسرف في تقريبها .. فلكل قارئ مفهومه وقراءته للنص.. ولنا أن ننظر من جوانب عدة موضوعية وفنية.. لذلك فضلت أن تكون مقاربتي هذه خفيفة.. لا تتعمق في شرح أفكار تلك النصوص بشكل مفصل, ولا تفسد أيضا بالشرح لتلك النهايات البديعة والمدهشة.
وقبل أن أنهي أشير إلى قدرة الكاتبة على بناء جملتها بدرجة عالية من الإتقان.. بل وعلى مستوى المفردة التي تشعرك تراكيب الجمل بدقة اختيارها. لقد جعلتني بعض الفقرات أبتسم .. وبعض النهايات أتمتم أحسنت, و…هي متعة أن تقرأ نصوصا غاية في التكثيف والإتقان. ولذا يستحق كل نص دراسة قائمة بحد ذاتها تستجلي بواطنه وما يرمز إليه .. هي دعوة لمن يدعون معرفتهم بالنقد.. فهاهي “تقاصي” وإصدارات يمنية أخرى تلقى رواجا عربيا .. ألا يستحق القراء أن يقدم لهم تلك النصوص البديعة بأقلام نقادنا . وأن يستفيد كل كاتب من طرح النقاد ؟ كخطوط نقدية ملهمة لكتاباته. وكما في تقاصي أن نتعلم اختيار مواضيعنا غير المطروقة. أن نجيد تلك الصياغات المحكمة البناء, وأن يشعر القارئ بأن ما يقرأه يخصه ويعبر عنه ويدهشه.
جل نصوص تقاصي تدور أفكارها حول قضايا جوهرية تخصنا جميعاً.. وكما ذكرت سابقا يجد القارئ في بعض نصوصها بأنه أحد شخصياتها. وقد خففت الكاتبة من الاتكاء كليا على الواقع.
أنا هنا لا أعني الابتعاد الكلي عن الواقع . وما أقصده ألا نغرق فيه. فمن الواقع نلتقط أفكارنا .. ومما نعيشه وما يعيشه من حولنا.. نختار من الواقع ما ننطلق منها.. لنحلق بالقارئ في خيالات الإدهاش والمتعة. حتى ينمو النص ويصبح شجرة لها أفرع وأغصان وزهور وثمار من خيال.
وهذا ما تصنعه المصري في جل نصوصها الجديدة.
نتحدث عن الجانب الموضوعي في هذه النصوص وهناك جوانب أخرى تدهش القارئ المتذوق. هناك أسلوب الكاتبة وسلاسة صياغته. وأهم ملمح فيما ذكرت لمساتها التهكمية والساخرة , وهذا أمر ينبئ عن كاتبة تفتح لنور الفن وتساهم فيه, وأجزم بأننا نقرأها ونجد جديتها, على عكس البعض الذين يقدمون الجدية بشكل جاف. المصري في هذه النصوص بدأت تتميز بتلك المسحة الساخرة , وأهمس لها بأن تلك قد يكون بصمتها وتميزها إذا طورته , فمثلا في نص الطاولة, وبعض تلك النصوص تدفع القارئ للإبتسام وهو يعلك تلك الجمل الرشيقة وقد أحكمت بنائها ببراعة حين تضع الشخصية المحورية للنص في موقع المفارقة.. موقع المغفل.
أكفي بذلك.. ولم أتناول أي جانب فني في تلك النصوص , وذلك هو الوجه الآخر لأي نص :الشكل.. التقنية.. الأسلوب.. الراوي.. الحوار.. والأ لاعيب التشويق. التطويل والتكثيف… إلخ فقد قدمت الكاتبة في نصوصها عناصر تجديد تحسب لها. لكنه الحيز الذي يتحكم بمقدار ثرثرتي. مفضلا الاكتفاء بالجانب الموضوعي أو جوهر النصوص.
نتشوق لميلاد مجموعة أخرى جديدة عربيا, تلك النصوص المشبعة بجماليات عدة. بل والأروع أن يقرأها القارئ العربي كما هي هذه المجموعة . أرى أن ذلك ممكناً لتجدد روح وشكل تلك النصوص.