العدوان على اليمن … الأبعاد والتداعيات (الاخيرة)

عبدالله عبدالرحمن الكبسي

كثيرة جداً هي تعلقات الخاطر بتجليات تلكم الحقبة الزاهية ومناقبها الخالدة على شتى الصعد والمستويات، بيد أن حكاية واحدة من مئات وآلاف الحكايات والمآثر التي زخر بها ذلك العهد الجميل وتنفستها تلكم المرحلة الفذة، قد انطبعت في الذاكرة ملياً وزاحمت الكثير من أشباهها حضوراً واستجابة لخصوص دلالتها هنا بل في كل سياق ومناسبة من ذكريات تلكم المرحلة وإشراقاتها الباهرة.
هذه الحكاية رواها لنا العزيز المبجل الدكتور محمد حزام النديش، الذي جمعتني به المصادفة الطيبة مطلع الثمانينيات عبر رحلة ممتعة من مدينة إب إلى مركز ناحية السدة والعودة من ثم، وكان ذلك بمصاحبة ابن منطقة (حَرْيَهْ، وفاضلها) الزميل العزيز العميد صالح محمد صيفان، حماه الله ورعاه.
قال الدكتور في سياق ذكرياته عن تلك المرحلة إياها: تعينت آنذاك مقرراً للجنة التصحيح بمركز محافظة ذمار وكان من ضمن المهام المناط تنفيذها باللجنة – الكشف على معسكر قوات العمالقة التي كان يقودها آنذاك المقدم عبدالله الحمدي، الشقيق الأكبر لرئيس مجلس القيادة إبراهيم الحمدي رحمهما الله، وعند وصولنا إلى قيادة المعسكر في اليوم المحدد للزيارة استقبلنا المعنيون هناك بحفاوة وترحاب، إلا أننا لم نتمكن من الحصول على أية معلومة مفيدة مما كنا قد خططنا لإنجازه في ذلك اليوم، وقد اعتذر لنا المعنيون بأن الوقت لم يسعفهم بإعداد وترتيب كلما يلزمنا – الاطلاع، أو الإجابة عليه من قبلهم رغم سبق التوجيه من قيادة القوات بتوفير كافة المتطلبات اللازمة لنجاح مهمتنا النوعية الدقيقة، ما حملنا على مغادرة المعسكر والتفكير بالاشتغال في جهة أخرى ريثما يصبح الإخوة هناك جاهزين لاستقبالنا ثانية إن أمكن العود.
قال الراوي رعاه الله: وكان من عادة الرئيس – في تلك الفترة أن يتصل بنا تلفونياً بين حين وآخر سائلاً، وموجهاً وشاكراً أيضا، وربما كان ذلك دأبه مع سائر اللجان الرئيسية في شتى المحافظات، وما هو إلا أن أظلنا مساء ذلك اليوم، أو الذي بعده حتى وردنا هاتفه المرتقب – مُمَسِّياً وسائلاً عن الأحوال الخاصة والعامة، فأجبناه آنذاك عن كلما أراد معرفته عن سير أعمالنا في المحافظة عموما وباقتضاب .. مشيرين في ثنايا الحديث إلى أن الأخوة في – العمالقة – لم يكونوا جاهزين لاستقبالنا حتى ذلك اليوم، فشكرنا حينئذٍ وأنهى المكالمة، وما هي إلا ساعة أو ساعتين – يضيف الدكتور النديش – حتى عاود الرئيس اتصاله موجها إيانا بالذهاب مجدداً إلى المعسكر من صبيحة تلكم الليلة والمواضبة هنالك حتى إكمال المهمة.
قال الدكتور محمد، رعاه الله،: فذهبنا حسب التوجيهات لنجد المعنيين جميعا في انتظارنا بما فيهم مَن لم يكن موجوداً في زيارتنا السابقة وكان الجميع على مستوى مرضٍ من الاستجابة والتعاون حتى أتممنا مهمتنا بنجاح لنغادرهم عقب ذلك شاكرين ومشكورين معاً.
قلت أنا العبدلله كاتب هذه الحروف: على أن بيت القصد ومناط العبرة وسر الجمال في هذه الحكاية لمَّا يأتِ بعد – فلنستمع إلى كل ذلك بالنقل الدقيق عن صاحب الرواية وشاهدها الفاضل د/محمد حزام الذي أضاف قائلاً: ثم أنه وبعد مضي نحواً من شهر، أو شهرين قدم علينا رحمه الله تعالى، في زيارة للمنطقة التقى خلالها بقيادة المحافظة ومدراء المكاتب فيها وغيرهم من عامة الناس وخاصتهم، ثم افردنا بجلسة عمل خاصة- يقصد الدكتور أعضاء لجنة التصحيح الأساسية بالمحافظة – وطلب منا شرحا ملخصا لِمَا قد تم إنجازه ، وماهية الصعوبات التي تواجه سير عملهم إن وجدت، فأجبناه إجمالاً وتفصيلا، حتى جئنا إلى ذكر نتائج مهمتنا في الوحدات العسكرية التي كانت تحظى لديه بأهمية مضاعفة، وما إن أتينا على ذكر الأرقام المالية التي أمكن التوصل إليها كحصيلة لمجمل المبالغ – المرتجعة – افتراضا، أو ما اصطلح على تسميتها – بالرديات – وكانت حصة – العمالقة – هي الأوفر على مستوى المحافظة حوالي (مليون ريال) حتى استوقفنا رحمه الله ملتقطاً الخيط ليتدفق حينئذ بحديث شامل مفعم بالمصداقية والإحساس الرفيع بالمسؤولية لافتا أنظارنا إلى عظمة المهمة التي تضطلع بها – لجان التصحيح المالي والإداري – وما تترتب عليها من نتائج جوهرية في ضبط الاختلالات الموجودة في مؤسسات الدولة المختلفة، وأنها فضلاً عن ذلك سوف ترشد المعنيين في مواقع التخطيط والإشراف إلى أهدى السبل بغية تطوير وتحسين مستويات الأداء الوظيفي وعلى النحو الذي ينبغي بل لا بد أن تنعكس إيجاباً وبشكل ملموس في إحساس المواطن البسيط بحقيقة التغيير الحاصل في الواقع الفعلي العام وملامسته في واقعه الحياتي المباشر – مصلحة في مجالات الخدمة العامة، فرصة عمل ميسرة لطالبها، عدالة في القضاء، ومساواة في تطبيق القانون، ثوابا وعقابا في مجال التكليف – … الخ.
قال الراوي: وهنا بدا الرئيس، رحمه الله، كما لو أنه تذكر شيئاً أو أراد أن يستدركه بعدما أفاض في الحديث وأخذته الإثارة شتى المناحي والآفاق، فإذا به يمسك عن الكلام برهة يسيرة قبل أن يستأنف الحديث قائلاً بل متسائلاً بقوله: وإلا، ماذا تعني لكم هذه – المبالغ التي أحرزتموها من خلال عملكم في المعسكرات؟ ثم أنه لم يمهلنا وإنما أردف قائلاً: أنا أخبركم فعندي من المعلومات ومن النتائج الأولية لعمل زملائكم في اللجان المثيلة في صنعاء والمحافظات ما يثري الإجابة ويعطي القضية بعدها الصحيح ومدلولها الحقيقي الهام والخطير، ويضع جهودكم العظيمة في ميزان – القدر والكرامة – باعتبارها عملاً وطنياً وإنسانياً نبيلاً بل لعلي لا أبُالغ إذا قلت: وبطولياً أيضاً، لماذا؟ لأنكم في لجان التصحيح المالي والإداري تؤسسون لعهد جديد ومرحلة مختلفة كلياً على صعيد بناء دولة النظام والقانون – ومغادرة أساليب – الارتجال والعبث والفوضى – ومن هنا أصل إلى المدخل الأنسب لتوضيح الأبعاد والدلالات الحقيقية لتلك الإنجازات المالية في مجال – القوات المسلحة والأمن – ملخصة في نقاط محددة كما يلي:
النقطة الأولى والأساس التي نستفيدها من هذه المبالغ المحققة: هي التهاون الواضح في تعقب الأفراد المتسربين من المعسكرات مع استمرار ظهور اسمائهم في كشوف المرتبات لأكثر من الوقت المسموح به، بل ظهورها في كشوف الخدمات المرفوعة دوريا إلى الدوائر المالية المختصة، وإذا كان من المفروغ منه أن هذه المبالغ المرتجعة ينتفع بها – القادة، والمدراء، والأركانات وحتى كُتَّاب الصرف وغيرهم هنا وهناك، إلا أن لهذه الناحية وجهاً آخر أكثر خطورة وسلبية وهي تتعلق أساساً بنظرة الفرد المتسرب من الخدمة العسكرية واعتبارها منذ البداية مجرد مرحلة في حياته أو فرصة عمل مؤقتة ربما دفعت إليها الحاجة وأحيانا النزوة المحضة وإغراء الحصول على البندق وارتداء الزي العسكري ليس إلا.
النقطة الثانية : وهي مرتبطة بسابقتها ومترتبة عنها وهي أننا كنا ومازلنا في تجنيد مستمر ومتواصل منذ قيام الثورة وحتى اليوم واللحظة من أجل تعويض النقص الحاصل نتيجة هذه الظاهرة، كما لمواجهة الحاجة الملحة إلى التوسع في إنشاء المزيد من الوحدات النوعية والمدارس التعليمية المختلفة التي تفرضها سنة التطور كما تفرضها وتحتمها علينا عوامل أخرى عديدة – خارجية وداخلية – يفهمها الأخوة العسكريون منكم تفصيلا.
على أن بمقدورنا جميعا أن نتصور عندما تتطلبنا الحاجة أن نفتح باب التجنيد كم يتعين على الدولة أن توفره لهذه الغرض الضروري من إمكانيات ونفقات هائلة لأغراض – الإعاشة والملبس والإيواء والراتب فقط وبالاقتطاع غالبا من قوت الشعب وعلى حساب كدحه وعرقه ثم لا نلبث حتى نكتشف بعد وقت ليس بالطويل أننا بحاجة إلى تكرار العملية مجددا وهكذا دواليك .
النقطة الثالثة والأخيرة والتي هي بمثابة – ثالثة المصائب والدواهي وخاتمة البلوى من هذه الفضية الخطيرة وتداعياتها الأخطر فتتمثل حقيقة في ما يمكن أن يترتب على هذا الوضع المختل في حال تقاعسنا عن إصلاحه وبسرعة من مصاعب وتحديات لا حدود لها, ولكم الآن أن تتصوروا حجم هذه المصاعب وطبيعتها المزعجة في حال ألم بنا مُلم أو دهمنا داهم مباغت قبل أن نكتشف متأخرين – لا قدر الله – بأن جيشنا الذي نعول عليه لأوقات النوائب والمهمات وكنا وما نزال نبنيه منذ ما يقرب من خمس عشرة سنة هو ( جيش موجود في الكشوفات وحسب وزيادة على ذلك أن الكادر الإداري فيه ربما بلغ حدا من التضخم قياسا على حجم القوة الموجودة في الميدان إلى الحد الذي يصلح معه أن يكون جيشا بحد ذاته)؟؟
على أن ما يزيد الأمر سوءاً وتعقيدا ويضاعف من حجم الهم والتحدي أمامنا في هذه المرحلة التي اخترنا بمحض إرادتنا أن تكون مرحلة للتصحيح والتأسيس هو أن تلكم الأدواء والمشاكل ليست قصرا على مؤسسة الجيش والأمن ولكنها تكاد تكون موجودة في جميع مؤسسات الدولة على تفاوت النسب ليس إلا.
ولأجل ذلك كان لا بد لنا من المضي قدما في طريق التصحيح والتطوير لأن هذا خيارنا الذي لا خيار لنا غيره وقدرنا الذي ينبغي حمله والنهوض بتبعاته وتكاليفه متوكلين على الله وحده ومعتمدين من بعده على المؤمنين الصادقين من أبناء شعبنا المكافح .
صحيح أن طريقنا شاق وطويل وهو إلى ذلك مليء بالأشواك والصعاب ويتطلب كثيرا من الصبر والمثابرة والتصميم ولا بد أن نصل في نهاية المطاف إلى ما نرجوه من – خير وعافية – لشعبنا ووطننا .
فلا تهاون ولا تسويف ولا انتظار.
لقد بدأنا سيرنا على الدرب وسوف لن نتراجع عما بدأنا السير فيه، فهذا قدرنا وهذا حق شعبنا علينا وهو من بعد ذلك ومن قبله مسؤوليتنا الوطنية بل الدينية والأخلاقية التي يتحتم علينا أن نحملها على عواتقنا بعزيمة وإيمان أيا ما يكن ثقل الحمل علينا وطبيعة الصعاب والمخاطر التي تترصدنا أو يمكن أن تواجهنا فلا مندوحة لنا عن المضي قدما في هذا الدرب المجيد والغاية النبيلة لأننا إن لم نفعل ذلك بأنفسنا فإن أحداً من غيرنا كائنا من يكون في هذا العالم العريض الواسع لا يمكن أبدا أن يأتي لينوب عنا في ما هو مسؤوليتنا ومصلحتنا .
وفقنا الله وأعاننا وأخذ بأيدينا إنه على ما يشاء قدير والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
التوقيع
مقدم / إبراهيم محمد الحمدي
رئيس مجلس القيادة
قلت أنا العبد لله كاتب هذه الحروف : هذه هي الحكاية كاملة رويتها هنا بتمامها كما كنت قد سمعتها منذ ما يزيد على ثلاثين عاما تقريبا ويشهد الله أن حالة من الخشوع والرهبة الشديدة كانت قد تملكتني تماما ساعة كنت أستمع إليها من فم الأخ الكريم د/ محمد حزام النديش – الذي بدوره كان يرويها آنذاك بوجدان حار وعاطفة جياشة بأصدق مشاعر الحب ومعاني الحزن النبيل والعارم.
وهاأنذا اليوم أسجلها بالقلم منفعلا بنفس الحالة وتجلياتها المؤثرة في منطق الدكتور العزيز محمد ولذلك فربما اتسمت الرواية هنا بطابع الاستقصاء العميق فضلا عن استحكام الطبع على طريقة العرض والبيان، مشيراً في الختام إلى كون التوقيع الذي ذيلت به الرواية هو من عندي وقد أردت به مجرد التذكير مجددا بـ(صاحب الحكاية وإنسانها العظيم رحمه الله ولمزيد الربط الذهني والعاطفي بمن ينبغي أن لا ينسى أبدا) وبالله المستعان والتوفيق
.هامش 214 (شهادة للتاريخ)

قد يعجبك ايضا