العدوان على اليمن الأبعاد والتداعيات (5)
عبدالله عبدالرحمن الكبسي
ولكن ما إن تناهت الأزمة إلى القبول بالمبادرة الخليجية وتمكن حزب الإصلاح من إعادة تموضعه على خارطة نظامها الجديد القديم معاً حتى جعل ديدنه وهم نفسه العمل الحثيث وبشتى الوسائل بغية إقصاء مكون أنصار الله من المشهد السياسي الجديد واستدراجه مجدداً إلى مربع الصراع المسلح وعلى خلفية مريحة من دعم خارجي وتواطؤ لا شك فيه من سلطة المبادرة التي قاطعها أنصار الله عبر موقفهم الرافض آنذاك للمشاركة في عملية الاقتراع على زعيمها التوافقي كما هو معروف.
ولكن وكما أن الرياح لا توافي دوما وفق مشتهى السفن وعلى مقتضى وجهتها فكذالك هي النتائج التي أسفرت عنها تلكم المواجهات المتنقلة تباعا على امتداد المساحة الجغرافية ما بين أقاصي الحدود الشمالية للبلاد من نواحي صعدة دماج – كتاف – وحتى مقر قيادة الفرقة الأولى مدرع على المدخل الشمالي الغربي للعاصمة صنعاء مروراً فيما بينهما بمعارك أرحب وحاشد وبني حشيش فعمران.. الخ.
وإذ يمكن القول الآن: بأن حزب الإصلاح بأجنحته المسلحة المختلفة من نظامية ومليشوية قد فقد المبادرة تماما في تلك المواجهات الدامية ومني عبرها بالهزائم المدوية إلا أنه في الحقيقة لم يفقد المقدرة على المناورة السياسية وإن بقصد لملمة أوراقة المبعثرة واستعادة توازنه المختل ريثما يتبين مواقع أقدامه ويعيد توجيه بوصلته في ظل المتغيرات الداهمة من وراء الحسبان.
فما إن فاجأت قيادة أنصار الله الوسط السياسي اليمني بدعوته مجدداً إلى الحضور والانتظام حول طاولة الحوار والمفاوضات بغية إنجاز وثيقة جامعة للسلم والشراكة وفي مقدمة المعنيين بتلكم الدعوة القيمة بطبيعة الحال حزب الإصلاح الذي التقط الفرصة بدوره مرحبا بالمبادرة ومبديا استعداده للانخراط فيها بالجدية اللازمة.
ثم أنه: وقد التقط أنفاسه واطمئن مليا إلى نوايا أنصار الله واغتباطهم الأكيد بموقف الحزب المتجاوب مع المبادرة الكريمة إياها ما لبث أن عزز موقفة ذاك بخطورة أخرى تبدت حينها أكثر جرأة وإيجابية وذلك عندما شكل وفداً نخبويا من قياداته المرموقة لمقابلة قيادة أنصار الله في عقر دارها ومقر إقامتها بمحافظة صعدة والتباحث معها مباشرة بكلما أهم من الأمور التي حملها الوفد في جعبته نيابة عن حزبه الكبير الإصلاح.
الأمر الذي لقي ترحيبا شديداً في الأوساط السياسية والجماهيرية ورفع من سقف التفاؤل لدى الكثير منهم بقرب انفراج الأزمة اليمنية وحلحلة أعقادها المختلفة وبخاصة في ظل توارد التصريحات المطمئنة والمتزامنة مع عودة الوفد الإصلاحي من زيارته لصعدة وبلسان أعضائه أنفسهم ولكن؟
أي والله ها نحن نعود إليها مجدداً خاضعين لمصحوبها من دواعي الأسف والخيبة لنقول: ولكن سرعان ما كشفت المجريات الميدانية المستجدة عن تفجر الصراع المسلح بين الفريقين في منطقة أرحب وتحديداً منها في منطقة يحيص حيث يقع المعسكر المنسوب إليها الذي دلت المشاهد والصور المنقولة من داخل كهوفه وسراديب إنشاءاته المختلفة على طبيعة النشاط الذي كان يعج به ذلك المعسكر وخطورة ما كان ينتج فيه ويحتوي عليه من آلات القتل ووسائل التدمير وتعليم أساليبهما المختلفة للاتباع والمريدين العميان فضلاً عن نماذج من مقروءاتهم الحمراء بمحمولها الشيطاني من دواعي الفتن وبواعث الكراهية والتحريض على العنف وسفك الدماء.
الأمر الذي يصعب تفسيره في ضوء تلكم الزيارة اللهم إلا على خلفية كونها مجرد مناورة تكتيكية لصرف الأنظار عن ذلك النشاط الإصلاحي المحموم والتقاط الأنفاس استعداداً لجولة أخرى من المواجهة.
وإن يتأت لنا العجبُ بعد ولمَّا تأخذنا الدهشة بعيداً عن دواعية فلأن حزب الإصلاح العائد وفده للتو من صعدة آنذاك بالبشارات العريضة عن اتفاقه مع قيادة أنصار الله قد بادر سريعا إلى الإعلان عن تنصله الصريح من أي مقتضى لذلك الاتفاق الموؤود زاعماً في تبريره الغريب وهذا محل الدهشة المشار إليها آنفاً ومتعلقها بأن ذلك المعسكر الذي يبدو من خلال موقعة الجغرافي البعيد عن العيون والسابلة والمحصن جيداً بالعوامل الطبيعية لم يكن سوى معسكر لإيواء النازحين الفارين من بيوتهم خلال الاشتباكات التي شهدتها مناطقهم من قبل ليس إلا؟
وهكذا يتراءى لنا بوضوح لا لبس فيه ولا خفاء بأن هذا الزعم العجيب وهو يأتي في سياق الاحتجاج على سقوط المعسكر إياه بيد أنصار الله والتبرير المتهافت لنقض الاتفاق المبرم مع قيادتهم إنما يعكس حجم الارتباك والتخبط الذي صاحب أداء حزب الإصلاح بل أساطينه المعتقين ولازم تصرفاتهم في المرحلة القريبة الماضية وإلى الحد الذي لم تعد تجدي معه دبلوماسية زيد الشامي ولا دهاء عبدالوهاب الآنسي وبراغماتيته العتيدة مع الأسف الشديد.
إن المتتبع الحصيف للتطورات المفصيلة، الفكرية والسياسية، التي صاحبت مسيرة – حزب الإصلاح – بهويته، الفكرية العقدية منذ بداياته الأولى وظهوره على الساحة بعنوان الجمعية العلمية، في أواخر عقد الستينيات ثم بهويته الدعوية الإخوانية.
وحتى تشكله الأخير مع آخرين من مؤيديه وداعميه من القوى المجتمعية المختلطة – إقطاع سياسي قبلي, وبرجوازية تجارية ومهنية وظيفية مدنية وعسكرية – تحت مسمى التجمع اليمني للإصلاح ) كما هو معروف .
أقول : إن المتتبع لتلك التطورات الهامة والمثيرة إلى حد كبير وبخاصة على الصعيد – الفكري العقدي – سيدهشه حتما حجم التغيير الكبير والمتسارع الذي طرأ على الفكر – الإخواني ومقدار تأثره الجلي وأند عامة العميق والواضح مع وبالمتغيرات الفكرية الطارئة على الساحة بتقاطعاتها الضدية وتأثيراتها المعرفية المعاكسة تماما للهوية الدينية – الثقافية والمذهبية – للمجتمع اليمني المتدين وافتراقه عن أولياته الدعوية المتسمة بالعقلانية والتسامح الجاذب, وعلى النحو الذي يريك الفرق المهول والبون الشاسع بين البداية الدعوية الإخوانية في اليمن, وشعارها الأساس – المقتبس من المصدر الأول – والقائل :
(لنتفق على ما نتفق عليه, وليعذر بعضنا بعضا فيما نختلف فيه)
وبين ما أفضت إليه الدعوة بنزعتها التكفيرية ولبوسها الوهابي من سل السيوف والإقدام على سفك الدم الحرام لأبسط أمور الخلاف وأقلها شأنا كصيغة الأذان (حي على خير العمل, أو إقامة الدرس على الميت) . ونحو ذلك من الأمور الخلافية الثانوية, وناهيك بما تناهى إليه هذا الفكر – مما أسفرت عنه مطبوعاتهم التكفيرية, ودلت عليه الحوادث المادية المتتالية باطراد, وبالتحديد خلال السنوات الأربع الماضية من انخراط بعض كوادرهم في – الأعمال الإرهابية – وتحول الكثير من دور الحديث ومراكز تحفيظ القرآن الكريم كما جامعة الإيمان إلى – ورش ومعامل – لإنتاج المتفجرات بمختلف أحجامها وأنواعها, وتوزيعها من ثم على عناصرهم في شتى المحافظات لزعزعة الأمن والاستقرار في ربوع البلاد فضلا عن تحول بعض المقار الرسمية التابعة لتجمع الإصلاح كما منازل بعض أعضائه إلى – أو كادر لإيواء الجانحين من محترفي القتل, وتخزين وسائله المختلفة من الأسلحة الخفيفة والمتوسطة – بوانيك, معدلات قنابل ذخائر متنوعة, فإلى أدوات التمويه والتنكر بشتى مفرد اتهما البسيطة والمركبة, وعلى النحو الذي يبرز هذا الحزب بمثابة الأخ الشقيق والنسخة الأكثر مطابقة للقاعدة وأخواتها المتناسلة منها ومعها سواءً بسواء .
على أن مما ينبغي التلفت إليه جيداً هنا هو : أن ذلك كله أو بعضه على الأقل كان يتم متزامنا مع – الأداء السلبي لممثلي الحزب – في حوار – الموفمبيك –ودورهم المريب في تعويق سير ورنة نحو الخاتمة والتمام الذي حال العدوان – السعو صهيو أمريكي – دون الوصول إليه في اللحظات الأخيرة بشهادة الأمم المتحدة نفسها كما أسلفنا الإشارة من قبل وهذا كله من جهة .
ومن أخرى فلئن كان – حزب الإصلاح في آخر انكشا فاته الأخلاقية المروعة وآخر ما قامر به من أوراقة السياسية المحترقة تباعا وبشكل مأساوي – قد بادر سريعا إلى تأييد العدوان الهمجي القذر على بلده اليمن وشعبه المسالم المظلوم.
فإن موقفه المخادع في الحوار آنف الذكر ليؤكد بما لا مجال للشك معه بأنه قد كان (جزء غير منفصل من مؤامرة العدوان على البلاد وبيدقاً رخصاً في خارطة مصفوفتها الغادرة اللئيمة).
وهنا وبإزاء هذا الكارث الفظيع والانحدار القيمي المروع, لا يسعنا إلا أن نعرب: عن عميق الأسف وبالغ الألم والحسرة لأجل من نعزهم ونحترمهم من الشخصيات المبجلة في حزب الإصلاح, سياسيون وأكاديميون ممن اتصفوا بكمال الخلق وصفاء النظرة وممن كان ينظر إليهم من قبل الكثير باعتبارهم نماذج مبهرة في المشهد الإصلاحي القاتم وضمانات مأمولة لكبح جماح الغاليين والمتطرفين من قيادات الحزب المأزومة, وبعيداً كذلك عن هيمنة المرجعيات الفتوية المنغلقة تماما على وهابيتها الداعشية وملحوظها الرئيوي الفاقد كليا للعقلانية والصفاء الذهني .
ونتساءل هنا: كيف أمكن لأولئك الإعلام أن يرتضوا لأنفسهم بأن يكونوا جزءاً من هذا العدوان الكافر على شعبهم ووطنهم ؟ وكيف نوموا عقولهم وعواطفهم عن ملحوظة الاستكباري الحاقد ؟ ثم كيف تراهم سيتصالحون مع ضمائرهم وإنسانيتهم وهم يرون وطنهم اليمن بإنسانه وعمرانه وقد أضحى في ظل العدوان البربري المهول – أكواما من الأشلاء والخرائب المبللة بدماء الأطفال والأمهات, والشيوخ, بل بدماء كل حي يتحرك؟
وما هو العذر الذي أعدوه إذا أو قفوا غداً في عرصات الحساب أمام الخالق عز وجل ؟؟؟.