محمد تركي الربيعو*
في سياق تفسير تفاقم ظاهرة العنف الديني التي يشهدها الشرق الأوسط منذ سنوات، فغالبا ما بتنا نشهد حالة من الاستسلام لجدول الأعمال السائد اليوم في وسائل الإعلام، خاصة بعد أن أعمتنا بالرسائل والتقارير الإعلامية حول الجهاديين، بحيث بتنا ننقاد في أحيان عديدة إلى الاعتقاد نفسه الذي أخذت تروجه، من أن خلاص الثورات العربية والمنطقة بشكل عام، لا يمكن أن يتم إلا عبر مواجهة الجماعات الجهادية المحلية والعابرة للقوميات، متناسين بذلك أن المشكلة أعقد من ذلك، وأن حكاية هذا الجهادي تعود بالأساس إلى طبيعة مركبة تتعلق بعلاقة المجال العام بالسلطة السياسية، وانبعاث سوق دينية جديدة، إضافة إلى كونها باتت تختزن-كما ترى الأنثربولوجية السعودية مضاوي الرشيد- في أحد أبعادها منطق الهيمنة الغربية، من حيث الدعوة إلى بناء نظام عالمي جديد يهمين فيه التضامن الإسلامي على الحدود العرقية والقومية، وهو منطق شبيه بالمنطق الغربي المهيمن القائم على فلسفة الثقافة والسوق العالمي الحر ما بعد القومي.
ضمن هذا السياق، يرى السوسيولوجي التركي حميد بوزرسلان في كتابه المترجم حديثا للعربية «قراءة في تاريخ العنف في الشرق الأوسط»، المنظمة العربية للترجمة، 2016، ترجمة هدى مقنص، الذي صدر بنسخته الفرنسية سنة 2007، أن الإحالات اللاهوتية التي شهدناها في القرن العشرين، والتي تعود إلى ميراث عقائدي ممتد على أكثر من أربعة عشر قرنا، غالبا ما أعيد تنشيطها في سياقات جديدة تملؤها ذاتيات لم يكن لها وجود في الماضي. ولذلك وجب علينا – بحسب الكاتب- الإنصات إلى الدرس الذي القاه مكسيم رودنسون منذ عقود خلت حين قال «بعيد عن أي موقف على المستوى الفلسفي، انا أؤكد بقوة أن على عالم الاجتماع أن يكون «وجوديا» بمعنى من المعاني على الأقل. فالمجتمعات والجماعات لا تملك ماهية أو كيانا متصلا أو إخلاصا لـ»ثوابت» لا تتحرك، وما يحدد وعيها وعملها هو وضعها الذي لا يكون هو نفسه بالضبط أبدا والذي يخضع إلى لعبة التغيرات الداخلية والخارجية».
متخيلات وشرعيات ثورية
ولذلك يهدف بوزرسلان في كتابه هذا إلى دراسة السياق المحلي للعنف الذي ساد في القرن الماضي، عبر التقاط ديناميكية الاستمرارية، كاستمرارية الأنظمة السلطوية والإكراه كنمط إنتاج الطاعة، الذي ساهم بشدة في عسكرة الدول والمعارضات معها، إضافة إلى دراسة المتخيلات الثورية التي سعت إلى التحرر، لكنها في الآن نفسه شرعنة العنف تجاه الآخر الذي بات وفق هذا المتخيل بمثابة «عدو داخلي».
ففي أوائل القرن التاسع عشر، بدأت في الامبراطورية العثمانية حقبة أطلق عليها اسم «النظام الجديد». وقد عنت هذه الرؤية عنفا ثلاثي الأبعاد: ضد المؤسسات القديمة، ومن بينها مؤسسات رئيسية كالدين الذي اتهم بأنه مسؤول عن تخلف البلدان الإسلامية، وضد المجتمع الذي أعلنه المتعلمون المغربون في حالة رثة، وأخيرا ضد النفس، لشد ما أحس المثقفون أن التغريب هو شكل استلاب مأساوي.
ومن ثم جرى الانتقال من العنف المؤسس الذي تبعته فترة من اللااستقرار المتميز بنشأة العديد من الاحتجاجات الاجتماعية والسياسية والإثنية، إلى الإكراه الثوري الذي مارسته شعارات حركة الاتحاد والترقي، والتي أخذت ترتبط بالسلاح والدم وبضرورة ممارسة القسوة في نظام الثورة «يجب سحق كل الرؤوس التي تريد تقاسم السلطة»، اضافة لذلك أخذنا نشهد – بحسب الكاتب- تبدلا في السجلات الرمزية والنحوية لتحديد المعارضين. ففي عهد عبد الحميد الثاني كان المعارضون من الأتراك الشباب ينظر لهم بوصفهم من أبناء جلالة السلطان الضالين، أو بأنهم من المشردين والأشقياء. ومع قدوم الاتحاديين، فإن الخصوم صاروا معتبرين أعداء بكل بساطة.
وبعيد الحرب العالمية الأولى التي انتهت بانتصار الحلفاء، باتت الدول العربية التي ولدت بعد تفتيت الامبراطورية العثمانية محكومة من «أفندية» وبرجوازية تجارية وقبائل إلى حد ما. أما نظام الديمقراطية البرجوازية الذي أقامته هذه النخب فقد أعطاها شرعية وأمن لها الطاعة والديمومة، لكنه استبعد إلى حد كبير «الشعب».
وبحسب بوزرسلان، فإن هذه الفترة أيضا، شهدت نشوء متخيل قومي عربي جديد لا سيما في الثلاثينيات، أخذ يهدد هنا وهناك القاعدة الاجتماعية لنوادي المثقفين القوميين العرب، الذين يفسرون القومية العربية تفسيرا ثقافيا أو «رومانطيقيا». وقد تمثل هذا المخيال اليميني الجديد في رؤية تعتقد أن الحياة هي وليدة الأعمال الحربية بين «الاجناس» المتنازعة، حيث تمثل الحرب شرط البقاء بحد ذاته، في حين أن الهمجية المولدة تمثل شرط النهضة الحضارية. ففي العراق مثلا، كان لأفكار اليمين المتطرف استقبال إيجابي حتى ضمن أوساط السلطة. ففي عام 1933 شرح سامي شوكت الذي حل محل ساطع الحصري (1880 -1968) القومي العربي الرومنطيقي على رأس ادارة التربية، قائلا «إن الأمة التي لا تتقن مهنة الموت بالحديد والنار يكون محكوم عليها أن تفنى تحت حوافر الخيل وجزم الجيوش الغريبة… إنه لمن واجبنا أن نحسن مهنة الموت، مهنة الجيش، المهنة العسكرية المقدسة». أما في سوريا، فقد كان تأثير اليمين المتطرف ظاهرا كذلك، وكما يقول فيليب خوري «إن اللغة الوطنية بحد ذاتها شهدت تحولا. ليس من دواعي الدهشة هنا أيضا أن تكون الحركة الوطنية، بما فيها الكتلة الوطنية التي هي من أنصار المفاوضات مع فرنسا، مشدودة إلى خيار تشكيل ميليشيات وتنظيم كشافة الأمويين».
مع ذلك، يرى بوزرسلان، أنه لا يمكن تفسير الاتجاه الجذري الذي أخذت تسلكه القومية العربية من خلال أثر اليمين المتطرف ورفض الاستعمار الأوروبي حصرا، فقد شهد العالم العربي في عام 1948 هزيمة وفقدان الأراضي الفلسطينية. ونظرا إلى العجز عن دخول حرب فعلية صار سجل الثورة وحده ذا قيمة لأنه من المفترض به أن يكون قادرا على «محاسبة» الأنظمة الخائنة والدخيلة في جسد الأمة وإنتاج القوة اللازمة للمحن الآنية. ولذلك فقد عملت الدولة العربية ومن خلال أجيال من العسكر الشبان الذي قاموا بـ»ثورات» في سوريا والعراق ومصر، على إسقاط نفسها في المستقبل، كما أعادت تعريف نفسها بوصفها أمة شابة تحمل مهمة وطنية وحتى عالمية من ناحية، وذات قاعدة ذكورية عسكرية من ناحية أخرى. وبواسطة العنف ومن خلاله، حل الجسم الداني (بما انه جسم الشعب) والنموذجي (بما أنه رشيق ومحارب)، محل جسم الأمير القاصي والعجوز الاستقراطي الذي أصبح عقبة أمام تفتح الأمة.
إسلام ثوري وقمع
يتطرق بعد ذلك الكاتب إلى هزيمة عام 1967، التي أخذت تعزز من قوة الوجود الفلسطيني على المستوى الإقليمي، الذي بات يندرج ضمن شمولية يسارية قائمة على الأخوة التي تربط «الشعوب المضطهدة» بـ»الطبقات المضطهدة» في شرعنة كفاح يصطبغ بلون أممي وتقوم به مجموعة قومية معينة. من ناحية أخرى، فقد بدا إعدام سيد قطب (الذي سبقه بسنوات) أقرب ما يكون إلى خبر في صفحة الحوادث على هامش التاريخ السياسي، وسرعان ما طواه النسيان بعد حرب الأيام الستة، لينحفر في قلوب المقربين من قطب وأتباعه وحسب. وقد استمرت هذه الوضعية الهامشية حتى عام 1979، وهي السنة التي وصفها البعض بالأكثر حسما بالنسبة إلى الشرق الأوسط منذ عام 1948.
فمع قدوم الإمام الخميني دخل الشرق الأوسط مرحلة جديدة من تاريخ متخيلاته، تقع على نقيض شبابية سنوات 1950-1970، حيث حل الشيخ الحكيم (الذي يشكل ألمه ذاكرة شعبه باسره وعلامة على اصطفائه) محل الثوري الشاب والرشيق المتمثل بعبد الناصر أو ياسر عرفات. وباسم هذه الآلام التجاوزية التي يحملها «هذا الجسد المسن» طلب من الشباب القيام بالتضحية الكبرى، أي الشهادة. من جهة أخرى شكل الاحتلال المسلح للأماكن المقدسة من قبل جهيمان العتيبي ورفاقه، اختلالا في صورة الإسلام السني المنصاع. وقد اتسم العقد الذي تلى هذا العام بحروب ثلاث طويلة: بين إيران والعراق وفي أفغانستان ولبنان، لتنتج كل واحدة منها صورة رمزية جديدة. حيث اندرجت حرب العراق في استمرارية الثورة الإيرانية وحملت إلى الواجهة -بحسب الكاتب- صورة الشهيد بوصفها الغاية النهائية التي ينشدها كل مقاتل مسلم. فالشباب الإيراني المتطوع في ميليشيا «المستضعفين» ضحى بنفسه بعشرات الآلاف معلنا بذلك نهاية تقليد الاستشهاد الشيعي المرتكز على «التباكي المستكين» الذي يقبل الألم كمحنة أرادها الخالق.
أما النزاع الأفغاني فقد شكل معمودية النار بالنسبة إلى عشرات آلاف المناضلين العرب مثل، أسامة بن لادن. أما الحرب اللبنانية فأعادت رسم الحدود التي كانت تفصل المدينة عن اللامدينة، وصارت لبيروت أبواب جديدة بحسب تنقلات الجبهات المتعددة. وقد شكل نشوء حزب الله علامة على أن الأطراف قد استولت على المركز السياسي اللبناني، حيث قام المحرومون والمهملون بتأكيد وجودهم في قلب المدينة بالذات. من ناحية أخرى لم يعد الانقسام في المدينة العربية بشكل عام مزدهرا كما في السابق بين «المخزن والسيبة»، بل نشأ انقسام جديد بين «المنطقة المفيدة» و»المنطقة غير المفيدة». ولذلك لم تعد تسيطر الدولة على بعض الأحياء «الخطرة» بل حاصرتها، مثل إمبابة في القاهرة وباب الواد في الجزائر.
قابلية الأنظمة المستبدة على الاستمرار:
وقد فتحت نهاية هذه الحروب الثلاث، باب الأمل لحدوث تحول سلمي في الشرق الأوسط. بيد أن الأنظمة الاستبدادية – بحسب بوزرسلان- صمدت، حيث احتفظت بموقع الحكم المطلق، الأمر الذي أطلق موجة اخرى من العنف، من خلال انخراط المعارضة الإسلاموية المسلحة في صراع لا يرحم مع السلطة، بيد أن هذه المعارضة أصبحت كذلك حلبة عنف داخلي. فقد مارست كل خلية – كما في الحالة الجزائرية- عنفا ذاتيا هداما بالنسبة إلى المعارضة المسلحة بمجملها، على اعتبار أن المجموعات الأخرى التي لا تحمل الأفكار والقيم ذاتها هي مجموعات فاسدة، إن لم تكن خائنة ربما. وإزاء تطور المجموعات المشرذمة والخارجة عن السيطرة، قبلت التيارات الإسلاموية الأساسية في النهاية صيغة السلطة الهوبسية على حالة السيوبة، كما أنه مع هذا التطور،عرفت الدول كيف تقنع سكان المدن، ولاسيما الطبقات الوسطى بضرورة الطاعة. وقدم العنف بوصفه «غريبا» عن المجتمع وعن الثقافة فصار يفسر على أنه مؤامرة تحاك من «جسم غريب عنا» و ببساطة من الخارج».
هوامش الانشقاق
وفقا للكاتب، لم ينجم عن هذا الوضع سوى عودة فرضية فشل الإسلام السياسي التي تقدم بها أوليفيه روا. ورغم أن روا لم يعن بكلمة «فشل» ضعف الحركة النضالية الإسلاموية بحد ذاتها، ولكن عجز الإسلامويين عن إنتاج سياسة قطع مع الأنظمة القائمة. بيد أن فرضية فشل الإسلام السياسي لم تدرك أن هذه المجتمعات استمرت، في موازاة ذلك، في إنتاج تطرف منكفئ على هوامشها. الأمر الذي بدا في نهاية التسعينيات من خلال رفض العديد ممن عادوا من الجهاد الأفغاني، خصخصة العنف التي فرضتها الدولة.
كما في حالة الشيخ أسامة بن لادن الذي فرض نفسه عبر شخصيته الكارزمية كمؤسس سلسلة انتقال جديدة في مسألة العنف. فقد عارض وخرج عن طاعة الملك وتنكر لفتوى علماء الدين الذين أيدوا المشروع لأنهم رأوا فيه عملا مهما لمحاربة الظلم والعدوان. ونقلا عن أبي مصعب السوري الذي عرف بن لادن خير معرفة منذ عام 1988، يرى الكاتب أن بن لادن والمجاهدين السعوديين معه لطالما اعتبروا النظام السعودي قبل حرب الخليج الثانية نظاما ظالما لكنه (على الرغم من فساده وظلمه) حكم شرعي. أما الرؤية التي حملها بن لادن عن السعودية بعد حرب عام 1991، فلم تكن نقدية بشكل جذري وحسب، بل كانت أيضا «نظرة مراجعة» بما أن الأسرة المالكة اتهمت بـ»الخيانة من الداخل» منذ عام 1936.
وعلى غرار سيد قطب، اعتبر بن لادن أنه لم يعد هناك خيار آخر سوى الجهاد بمثابة واجب دفاعي، بيد أن الاستمرارية في التطرف هي التي قادت- بحسب بوزرسلان- إلى أن تغدو الرومنطقية القاعدية القاتلة كونية، لتنتج «جمالية» عنف جديد أشد سحرا بكثير من تلك التي كانت سائدة، إلى درجة انها جذبت أجيالا عفوية في كل مكان.
——————————-
*باحث سوري
المصدر: موقع القدس