“وعاء الثائرين”
طه زبارة
للوهلة الأولى عندما تراه تشعر بالبساطة ويستنهض في خاطرك شيء من الود تجاهه،
تأخذك قدميك نحوه عنوةً لتقترب منه أكثر وتحدق في تفاصيل جفنيه لعلك تجد إجابة عن الطبيعة السيكيولوجية لذاته وعن غموض شخصيته، فهل هو صارم أم حازم، وهل هو لطيف، دمث، ليّن، يحب المزاح ويتقبله، أم أنه جاف وجلف وفظ ولا يوجد في قواميسه معنى لخفة الظل. ولكن تلك البساطة التي يلتحفها تجعلك تضرب أخماساً في أسداس وتُجبرك على معرفته عن قرب لتكتشف السر الذي يؤرقك!
ما إن تمكث معه حتى تعلم أنه يعاني من كدح العيش ويمشي على قدميه، فلم يكن من أصحاب القصور الفاخرة والفلل العامرة، ولم يملك السيارات الحديثة، فجُل ماكان لديه هي سيارة قديمة احتضرت أمام منزله الذي يمكث فيه بالإيجار!
تزداد عواطفك تجاهه وتشعر عليه بالحزن ولكن حينما يبتسم إليك تجد نفسك أنك أنت التعيس وهو السعيد.
تسأل ذاتك: من أين يأتي بكل هذه السعادة وما السر في محبة الناس له وحرصهم على المكوث أطول فترة زمنية بجواره؟
لذا تلتزم الصبر وتبدأ بالحديث معه لعلك تجد الجواب، وحينما يتحدث معك تشعر أنه صديقك منذ فترة زمنية مضت، تشعر أنك قابلته وتحدثت معه ولكن ليس في هذا الزمان ربما في عالم آخر وزمان آخر لا تعرفه، ربما ألتقت روحك مع روحه في عالم الأرواح حيث لا تدري أين يكون.
فمن حديثه معك تجد أنه يفهم مايجول بخاطرك ويعي متى تنزعج ومتى تنبسط!
فتكتشف من تلقاء نفسك أن هذا الإنسان لم يكن مثلنا وحسب وإنما قائداً وعالماً وثورياً ومدرساً، باختصار ت?درك أنه الإنسان الذي لن يتكرر أمامك, فهو وعاء كل ضامئ للحرية كل باحث عن الكفاح والنضال الثوري، هو رحيق يأوي إليه المسافرون من جور الزمان ليستنشقوا منه عبق الأمل، فيوقنوا حينها أن الثورة تجري في دماء الأحرار وليست محظ عبارة يتناولها الجميع في أحاديثهم ودواوينهم وجلساتهم ومقائلهم.
هو الإنسان الذي لا تحبذ أن تخسره في يوم من الأيام فتحرص على التواصل معه والاستفادة منه. تحرص على الضحك بجواره والتشبع من ابتسامته، ولكنك للأسف لم تحرص على إبقائه في مأمن ولم يخطر في بالك انه قد يتعرض للخطر، فأنت لا ترى منه إلا كل ما هو طيب ,فلماذا تخاف عليه؟
ولكن القلوب الحاقدة لا ترى ما تراه، فهي تجد الصدق مُزعجاً، والحق مؤلماً.
لم يخطر في بالك أنهم سيخترقون رأسه بطلق ناري ولم تتوقع أن دماءه الطاهرة ستصب على حافة الطريق وأنت لا تستطيع أن تعمل شيئاً سوى المشاهدة.
نعم لا تملك شيئاً سوى أن تشاهد هامة وطنية وعلماً ثورياً وإنساناً بسيطاً متواضعاً يسقط إلى السماء تاركاً إياك وحيداً بلا سند وبظهر مكسور !
تتكبد آنين الخاطر وتتحدث دموعك عن جور التفريط الذي فعلته في حقه فلم تحمه من الظلم ولكنك سرعان ما تكتم الضيم وتضطر لأخذ نصائحه وكلماته وتستند عليها في بقية مشوار حياتك فهي العكاز الذي سينجبر عليه كُسر ظهرك وهي الطريق التي ستوصلك الى تحقيق حلم الشهيد.
فامضي في نضاله لأنه عهد وميثاق منك للشهيد لأنها الوصية التي تركها عبدالكريم الخيواني وما نحن بمفرطين به وبوصيته هذه المرة.