غيّرت الثورة الرقمية وما أنتجته من تكنولوجيات الكثير من الممارسات والمفاهيم في مختلف المجالات والميادين، وليس الأقل تأثراً منها تلك المتعلّقة بمختلف قطاعات النشاط الاقتصادي. ذلك أن «آليات وقواعد العمل» في هذا المجال الواسع أصبحت تتسم بسرعة فائقة، بل و«لحظية».
في مثل هذا السياق برزت تلك الشركات التي يطلقون عليها تسمية «ستارت أب» التي غدت ذات دلالة ذات بعد عالمي بامتياز. والغاية الأساسية التي تقوم عليها هي تحقيق النجاح السريع أو على الأقل زعم امتلاك سبل «الإقلاع الفوري» في عالم المشاريع الاقتصادية.
وهذه الشركات، وسبل النجاح السريع، هي موضوع كتاب «بيتر تيل»، الملياردير الأميركي والمحاضر في جامعة ستانفورد التي كان قد تخرّج منها«. يحمل الكتاب عنوان»من الصفر إلى الواحد«. ويقدّم المؤلف فيه الكثير من الملاحظات»حول شركات النجاح السريع«المشهورة بتسمية ــ ستارت أب ــ أو كيف نبني المستقبل»، كما يقول العنوان الفرعي للكتاب.
الفكرة الأساسية التي تتردد في تحليلات هذا الكتاب مفادها أن «كل لحظة في عالم المشاريع والأعمال لا تمرّ سوى مرّة واحدة». والتركيز بالتوازي مع ذلك على أنه «من السهل أكثر القيام بنسخ نموذج قائم من اختراع مشرب جديد».
لكن تبقى عملية «الاختراع»، بمعنى «الإبداع»، هي التي تمتلك، برأي «بيتر تيل»، إمكانية الانتقال «من الصفر إلى الواحد». وما يعني صنع «شيء» وتحقيق «كسب كبير» عبر الانطلاق من لا شيء «تقريبا» سوى فكرة يمكن استثمارها. هذا مع التأكيد أن السبيل إلى ذلك لا يكمن في «عالم المال والتمويل».
بل ويتم توصيف هذا العالم المالي والتمويلي بأنه «الطريقة الوحيدة لكسب المال عندما لا يكون لدى المرء المعني أيّة فكرة عن كيفية خلق الثروة». ولكن السبيل يتم تحديده بالأحرى في عالم التجديد والمشاريع الجديدة. وبالاعتماد على «التكنولوجيات الحديثة واستثمارها في مجالات لم يتم استغلالها بشرياً حتى الآن».
وفي بداية الكتاب يشير المؤلف إلى السياق الذي كان بمثابة المقدمات التي أدّت إلى تحريره. إنه يعود إلى عام 2012 عندما شرع في جامعة ستانفورد الأميركية بتعليم مجموعة طلبة كيفية تأسيس مشاريع ناجحة بسرعة.
وتلك المعلومات التي كان يدوّنها الطالب «ميستيرز» شكّلت في عمل مشترك مع الأستاذ بيتر تيل مادة كتاب «من الصفر إلى الواحد..معلومات حول شركات الربح السريع أو كيف نبني المستقبل؟». هنا أيضا ما بدأ من «الصفر» غدا عمّلاً ملموسا عبر «استثمار اللحظة المناسبة».
وهكذا أيضا تحوّل «بلاك ميستيرز» من طالب لدى «تيل» إلى أحد مؤلفي كتابهما المشترك.
ويبقى محتوى أفكار العمل تلك التي تعود للأستاذ ــ الملياردير. وكان الطالب قد دوّنها و«حفظها» وعاد تيل إلى معاملتها ووضعها في قالب «تحريري» مستفيدا، من ميله «التاريخي» لقراءة الكتب في مختلف ميادين الأدب والمعرفة.
المؤلف يستعين في شرح الكثير من الحالات على تجربته الخاصّة في تأسيس عدد من المشاريع الجديدة. والتي ليس أقلها شهرة أنه أحد مؤسسي مجموعة «بايبال» الشهيرة لعمليات البيع والشراء وتحويل الأموال عبر شبكة الانترنت.
وكان قد جنى من أعمال شركات النجاح السريع «ستارت اب» التي أسسها مئات الملايين من الدولارات وكان من أوائل المستثمرين الأميركيين في شبكة «فيسبوك للتواصل الاجتماعي».. هذا مع دعم دروس تجربته الشخصية بالتأكيد على ضرورة فهم آليات عمل المؤسسات المعنية، بالإضافة إلى فهم آليات عمل الأسواق.
ومن الأمثلة العديدة التي يناقشها المؤلف تلك التي تخص مشاريع بدأت عمليا وواقعيا من «الصفر». ويرى أنه من الصعب تصوّر أن تستجد مشاريع يمكنها أن تشكّل تهديدا حقيقيا لواقع «الهيمنة» التي تتمتع فيها مجموعات مثل «محرّك بحث غوغل» أو «شبكة فيسبوك للتواصل الاجتماعي».
لكن هذا لا يمنع واقعاً أن تلك المشاريع الناجحة الكبرى لم تبدأ «فعليا» من الصفر. لكنها قامت في أغلب الأحيان بعملية «تحسين حاسم» لآليات عملها بالنسبة لما كان سائدا. هكذا مثلاً قامت مجموعة «غوغل»، المسيطرة بلا منازع على شبكات الانترنت، بقفزة نوعية بالقياس إلى محركات البحث الموجودة قبلها.
ثمّ إن «الفيسبوك» بدأ كوسيلة تواصل بين مجموعة من الطلبة الأميركيين في جامعة هارفارد قبل أن يصبح «وسيلة التواصل الاجتماعي» الرئيسية على مستوى العالم أجمع. وفي مختلف هذه الحالات كان هناك تحوّل «تجديدي».
إن المؤلف يركز شرحه على مدى قسم كبير من صفحات هذا الكتاب على شركات النجاح السريع. وهو يركّز بشكل خاص على أهميّة «أجواء العمل» بالنسبة للمؤسسات «الجديدة» و«الصغيرة». ذلك على أساس أن تلك الأجواء تشكل «مفتاح الازدهار».
وفي الخلاصة، يبين المؤلف أن «الذهنية الناجحة في عالم المشاريع» هي تلك التي تستطيع التوصّل إلى التعرّف على السبل التي تتيح «اختراع ما هو جديد». وعلى أساس هذه الفكرة يبدي تيل «تفاؤلاً واضحاً» على خلفيّة أنه لا يزال الكثير من الإمكانيات أمام مسيرة التقدم الإنساني عموما، وبالنسبة للمستقبل بالنسبة لأميركا خصوصا. والمهم دائما يجده في ولوج سبل جديدة في التفكير من أجل تحقيق قدر أكبر من الاختراعات الجديدة.