عرض/خليل المعلمي
يكمن أهمية كتاب “حوار الحضارات والثقافات” للناقد والأديب المصري الدكتور جابر عصفور من خلال التساؤلات الكثيرة والأساسية التي يطرحها المؤلف ولعلها أكثر بكثير من الأجوبة أو مايشبهها، في هذا الكتاب يرى الدكتور جابر عصفور أن الشخص المفعم بكتب التراث ليس ماضوياً بل على العكس من ذلك فهو معاصراً ومستقبلياً وعقلانياً وذلك من خلال الارتهان للعناصر العقلانية والمعرفية في هذا التراث ودمج رؤاه التقدمية ومفاعليها في ثقافتنا الراهنة واغفائها بما يسهم في تحريك التفاعل بين مختلف عناصر التقدم والنماء في ثقافتنا عموماً أي في حركة تدامج العناصر المستقبلية هذه لثقافة الماضي بالثقافة الراهنة وتفعيل الرؤية العقلانية والنقدية لحركة الصراع داخل هذه الثقافة.
التنوع الثقافي
استعرض المؤلف مفهومان ثقافيان ووصفها بأنهما عنصران لا يخلوان من نزعة استعلائية عدوانية أول هذين المفهومين “المركزية الأوروبية- الأمريكية” التي سادت لفترة طويلة من عمر البشرية خصوصاً بعد حركة الكشوف الجغرافية وتأسيس النزعة الاستعمارية التي تبعتها والمفهوم الآخر الذي تولد عن المفهوم العنصري القمعي الايديولوجي للمركزية الأوروبية الأمريكية، وهو مفهوم صراعات الحضارات الناتج عن ايديولوجيا التبعية التي انغلق فيها المتبوع على نفسه إلى أن صدقها وفرض التصديق بها على غيره، ونتج عن ذلك أن حقق هذا المفهوم أهداف التبعية بوضع التابعين وضع المنقضين على التابع المتأهبين للقضاء عليه، واحلال أديانهم الأدنى مكانة وثقافاتهم الأقل شأناً محل ديانة المركز التي اكتسبت تميزه من تميزه وارتفاع قامتها من ارتفاع قامته.
أسئلة المستقبل
تميز الكتاب بالكثير من الأسئلة التي وضعها المؤلف ومن أهم هذه الأسئلة التي بدأ بها سؤال المستقبل ومستقبل الثقافة وذلك من خلال الوعي بمستقبل الثقافة ذاتها من حيث الوعي بإمكانات الحضور الفاعل، وأشار إلى أنه لابد من التمييز بين نمطين من الوعي الثقافي العام، ينتج كل منهما عن نوع الثقافة الغالبة بالقدر الذي يسهم في إعادة إنتاجها وإشاعتها وترسيخها، فالأولى وعي ماضوي تقليدي والثاني وعي مستقبلي استشرافي.
ويؤكد أن سؤال المستقبل الذي تطرحه مثل تلك الثقافة الماضوية إنما هو في واقعه سؤال الماضي الذي نعدو به “المستقبل” فعلاً من أفعال الاستعادة أو البعث او المحاكاة أو التقليد أو الاتباع، ويرى أن سؤال المستقبل في مثل هذه الثقافة الماضوية هو حضور كالغياب لأنه يرى حضور مقموع محكوم عليه بتكرار نقيضه الذي ينفي عنه الفاعلية والمعنى الخلاق للحضور الفعلي، ومن هنا فأن سدنة هذه الثقافة الماضوية التكرارية يرون في الإبداع بدعة وفي التجديد مروقاً وفي الأسئلة نوعاً من “التجديف”.
العولمة والهوية الثقافية
عن الهوية الثقافية والتحديات التي تواجهها في ظل زمن العولمة يوضح الدكتور جابر عصفور أن ما يميز ثقافتنا العربية في زمنها النوعي داخل الزمن العام هو تجاوب حواراتها الذاتية والغيرية، خصوصاً على مستوى مناقلة التأثر والتأثير ولذلك تواجه ثقافتنا مكوناتها واتجاهاتها المتعارضة في حواراتها الذاتية التي تنقلب في غير حالة إلى تناقض يفضي إلى الصراع، وفي الوقت نفسه تواجه هذه الثقافة العالم الذي لا يتوقف عن التقدم في تقنية اتصالاته التي أحالت الكوكب الأرضي إلى قرية كونية بالفعل، أفضت إلى تشكل نسق جديد من العلاقات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والمعلوماتية التي نسميها العولمة.
وأضاف: إن هذا الواقع الجديد يفرض على الثقافة العربية تحديات غير مسبوقة تدفعها إلى أن تعيد تأمل إمكاناتها لاكتشاف مدى قدرتها على الحركة في عالم ليس من صنعها ولا نملك سوى مواجهته بكل متناقضاته المفروضة عليها والمؤثرة فيها، دافعها إلى ذلك حرصها على الوجود الفعال في عالم يجمع بين المتناقضات.
التنوع الخلاق
لقد جاء عنوان “التنوع الخلاق” في تقرير أصدرته اللجنة العالمية للثقافة والتنمية العام 1995م، وهو عنوان يكشف عن منزع جديد في فهم الثقافة الإنسانية من منظور النزعة الكوكبية الوليدة التي كانت بمثابة الإطار المرجعي، حسب رأي المؤلف الذي يؤكد أن التنوع البشري الخلاق هو مبدأ الفعل الابتكاري في الثقافة التي تتوثب بعافية الحرية وتشيع معاني التسامح وحق الاختلاف واحترام المغايرة ولا تنفر من إعادة النظر في تقاليدها لأنها تنطوي على الوجه الداخلي الذي يحول بينها والركون إلى المعتاد أو السائد.
ومن خلال ذلك فالنزعة الكوكبية لا تهدف إلى تسلط أمة على أمة أو سيادة ثقافة على أخرى بل يعني احترام الهويات الثقافية لكل شعب من الشعوب بالقدر نفسه ومراعاة خصوصية كل تجربة تاريخية دون محاباة لتجربة على حساب غيرها والتخلي عن مركزية النظرة أو أحادية التوجه، والإيمان بالحوار بين القوميات والمعتقدات والمذاهب والأنظمة، دون تمييز بين أغلبية وأقلية، ولهذه النزعة ملامحها الإيجابية تبدأ من الإيمان بعلاقات متكافئة بين كل أمم الكوكب الأرضي.
ووضع الدكتور جابر عصفور تساؤلات أساسية عن العوامل الثقافية والاجتماعية التي تؤثر على التنمية في عمومها وعن التأثير الثقافي للتنمية الاجتماعية والاقتصادية في خصوصها وعن العلاقة بين الثقافات وأنماط التنمية، وعن كيفية ربط مكونات الثقافة التقليدية بالتحديث وعن الأبعاد الثقافية للرفاهية الفردية والجماعية، فيما الإجابة عن هذه التساؤلات كما يؤكد نهج جديد من الوعي بحجم القضايا الثقافية التي تعوق التنمية البشرية.
حوار الحضارات
وعن قضية “حوار الحضارات” أشار المؤلف إلى أن الحديث عن هذه القضية قد انتشر في السنوات الأخيرة على امتداد العالمين العربي والعالم الإسلامي، فأقيمت المؤتمرات والندوات وتعددت الكتابات والمؤلفات، وكثرت الاجتهادات والرؤى والمشروعات عبر وسائل الإعلام المختلفة، مشيراً إلى أنها لا تزال تحتل مساحات متزايدة من الاهتمام لا يوازيها في ذلك سوى قضية العولمة التي فرضت واقعها السلبي على العالم الثالث.
وتطرق إلى الآراء المختلفة حول هذه القضية من خلال المؤتمرات الدولية والأممية، ويؤكد على ضرورة الحوار بين الحضارات فهو يسلط الضوء في المقابل على عوائق هذا الحوار، مؤكداً أن أهم هذه العوائق تتجلى وتنتج عن ممارسات الدول الغنية التي من طبيعتها البنيوية –كدول غنية- النزوع إلى السيطرة ونهب ثروات البلدان الأخرى، وفرض الرأي النقيض للحوار داخل هذا الحوار والترويج لأفكار صدام الحضارات التي تبرز الحروب بين الشعوب والأديان والمذاهب والدول.
الإبداع والتمكين
استعرض المؤلف في جزء مهم من الكتاب أهمية الإبداع واستخدامه بمعناه الواسع، وأكد ضرورة دعمه من أجل التجديد والإنتاجية الصناعية، ويؤكد المؤلف أن التوجه الإبداعي غير قابل للتلقين ولا يمكن فرضه فلا بد من تغذيته حيثما وجد، والإبداع لا ينتعش إلا في مناخ يرعاه، متطرقاً إلى ما تشهده الحضارات الإنسانية من تقدم في الإبداع الفني والتعبير الثقافي والإبداع التقني وكذلك الإبداع في السياسة والحكم.