فايز محيي الدين
ناصر الحنش سارد موهوب، لديه الكثير من أساليب السرد الممتعة، فهو يجيد الوصف، ويتقن الحوار، ويتفنن في الاسترسال بالمونولوج أو الحوار الذاتي، ويحبك أحداثاً تتنامى وتأسر المتلقي.
ويبدو ذلك من أول وهلة لعمله الروائي (نعيش معاً) حين يلج إلى صلب الحدث دونما مقدمات تفسد السرد، أو تذاكي باستخدام جُمَل عصيبة الفهم أو سردية مُغرقة بالشعرية كما يفعل البعض استعراضاً لمقدرتهم اللغوية والشعرية معاً.
مع أن الكثير منهم يقع في قطعٍ للسرد وحبكة الحكاية مما يجعلها تبدو مفككة وتصيب المتلقي بالملل حتى وإن كانت تعبيراتها غاية في الجمال اللفظي.
لكن يبقى هنالك فرقٌ بين جماليات السرد وجماليات الشعر وإلا لضممناهما ببعض وخلصنا أنفسنا من متاعب التلقي والنقد والتذوق لهذين الفنين.
ورغم امتلاكه لناصية السرد إلّا أنه وكما يبدو قد أخفق بالإيحاء للمتلقي بمكان أحداث الرواية، وهذا عيبٌ كبيرٌ يتشابه مع ما يعمد إليه بعض الشعراء الذين يوغلون بالطلاسم الزخرفية لصورهم الشعرية حتى لا يجدون هم قبل المتلقي تفسيراً لتلك التراكيب التي رصوها، وحين تعمد إليهم للاستفسار عنها يقولون لك: المعنى في بطن الشاعر أو حاول مع النص ليفصح لك عن معانيه ودلالاته، مع أنك تُرجع البصرَ كرَتين فينقلبُ إليكَ خاسئاً وهو حسير!!.
وهنا لا أجد ثمة مسوغ لعدم الإفصاح عن مكان الحدث في الرواية، بل هو فشل ذريع، كون الزمان والمكان عنصران رئيسيان في تكوينات فن الرواية والسرد عموما، وبالتالي فالإخفاق في عدم إيضاحمها للمتلقي يُعدُّ عيباً كبيراً لا يُغتَفَر.
والمدقق في رواية ناصر الحنش لا يجد أمامه هذين العنصرين البتة، فلا زمان اتضح، ولا مكان افتضح.
ومن هنا تبدأ رحلة المعاناة لدى المتلقي الذي يسعى جاهراً للملمة أطراف الرواية عساهُ يخرج بمكانٍ أو زمانٍ محدد فلا يستطيع. فضلاً عن معاناته في محاولة الربط بين شخصيتي المرأتين اللتين التقى بهما بطلُ الرواية في المطعم اللبناني وبقيتا معه معظم فصول الرواية، فلم يعد يدري أيهما يقصد: هل المرأة الرشيقة التي أتت مع الرجل الشايب البدين أم المرأة التي شاطرته كرسي الطاولة الذي قعدَ عليها وحده قبل أن تنضم إليه تلك المرأة.
وفوق هذا وذاك هناك أخطاءٌ جمة في بعض التراكيب التي بدت متعاضلة والبعض الآخر لا توحي بمعنىً مفهومٍ البتة. إلى جانب أخطاء لا تتسق تعبيراتُها وواقع الحَدَث، كأن يرى الأسماك تتطاير في البحيرة أو النهر وقت الغسق، أو حاسب قيمة العشاء مع أنه قد دفع قيمة الفاتورة مسبقاً عند الحجز، وأنها قالت له: لا تنسَ موعدنا غداً.. أجبتها: بالتأكيد لن أنسى!! مع أنهما على العشاء وفي السيارة لم يتواعدا!! .
هيروت الأثيوبية من إقليم أمهرة الذي تنتمي له أم بطل الرواية وهو عربي مسلم من شرق البحر الأحمر(يمني) تشرح قصة جدتها اليهودية التي عشقت جندياً إيطالياً وأنجبت منه سفاحاً أم هيروت
هذا الشرح كان جميلاً وسلساً وأعطى المتلقي فكرة عن أشياء خاصة في حياة اليهود . وهي بحد ذاتها فكرة رائعة لرواية مستقلة.
تطرَّقَ الروائي لقضية التيارات المتشددة وانتقدها بشكلٍ جميل، مستهجناً لسلوكها حيث تدعو على الأجانب بالهلاك وهي تعيش عالة بكل شيء على ما ينتجونه في شتى المجالات!!.
((أعطتني أرقام تلفوناتها للبيت والعمل.. هذا مكتوب على كرتها.. ثم قالت سأستقبل ابنتي فذكرتني باستقبال زينب في محطة الباص)) ويبدأ ص73-85 فصل الحديث عن زينب والجن في بيته والجني الذي هو قط أعور.. وهذا قطع للسرد وتنامي الحدث رغم جمال الفكرة ونقاء التعبير عنها وعكسها بقالب سردي بديع!!.
ارتباك مكان الرواية جعل كل متلقِ يراها في دولة، ففي حين أسقطتها أنا على أثيوبيا أسقطها صديقي الغربي عمران على لبنان، والعزيزة انتصار السري على جيبوتي، وهكذا. ومن هنا تتباين أساليب التلقي بشكل لا يفيد النص بقدر ما يخل فيه. لأن المتلقي هنا يذهب بعيداً عن الفكرة الأساس التي أراد إيصالها الروائي من خلال نصه. وهنا يقع اللوم على مَن صاغَ لا مَن تلقّى.
ولعلَّ الكثير من الأخطاء الإملائية والنحوية والتركيبية التي تعج بها الرواية تعود إلى عدم مراجعتها أولاً من قبل متخصصين قبل طباعتها، وإلى عدم إجادة صديقنا الحنش لاستخدام الكمبيوتر في صف كتاباته، وبالتالي تقع الكثير من الأخطاء، لأن مَن يقوم بالجمع والصف للعمل الأدبي هم في الغالب ممن لا يمتون للأدب بصلة، ولهذا يوقعون الأديب والكاتب في أخطاء فادحة لا تُغتَفَر.
ناصر الحنش كان بإمكانه لو أعاد النظر بنصه قبل الطباعة أن يخرج لنا بنصٍّ مُدهش، كون فكرته نادرة التناول، خاصة وهو عاش فترة طويلة في الحبشة، وكان بإمكانه أن ينقل لنا عن ذلك المجتمع الذي يهفو له قلبُ كل يمني الشيء الكثير.
وهو أقدر من غيره على نقل تفاصيل مجتمع ارتبط ولا يزال مع اليمن بأقوى الروابط الحميمية على مدى قرونٍ من الزمن. وبحكم عيشه في الحبشة فهو الأقدر على الغوص في ثنايا ذلك المجتمع وإخراج لآلئه ونقل تجربة متكاملة أيضاً عن طبيعة معيشة اليمنيين المهاجرين في تلك البلاد الجميلة والمحببة لكل اليمنيين على مدى الزمن.
ولو كان نحا في كتابة هذه الرواية منحى السيرة الذاتية لأتى بعملٍ حافلٍ بالتشويق والإثارة، ولرسم لنا صورة متكاملة يعجز غيره عن الإتيان بها.
ومع ذلك تبقى رواية (نعيش معاً) لناصر محمد الحنش صورة حية ونابضة بما هي عليه الحياة في القرن الأفريقي، وسبقاً في عالم السرد اليمني من حيث فرادة الفكرة.
الاستطراد بالحديث عن سلالة الكلاب كان نشازاً وقطع لذة متابعة تسلسل الأحداث.
ناصر الحنش لديه معارف وأفكار كثيرة لكنه حاول حشرها كلما تبادرت إلى ذهنه فكرة، مما جعله يكتب النص بشكل يبدو مهلهلاً، وذلك يعود لرغبته في نقل كل ما لديه، فيما اأخطاء ترجع إلى عدم مراجعته لنصه وتشذيبه قبل نشره.
أخيراً يمكن القول عنها أنها رواية لم تكتمل.