دموع فوق الإسفلت (حق الجعالة)
عبدالوهاب الضوراني
بقطعة حلوى لا تساوي من حيث القيمة الشيء الكثير ولكنها في ميزان الحسنات والأجر تساوي الشيء الكثير والكثير .. ابتاعها أحد المارة من أهل الخير بأتفه وأبخس ثمن من ثمة بائع متجول يجوب الشوارع والأرصفة فوق دراجة وهي تتحرك وتزحف بتباطؤ وكسل فوق الإسفلت تحدث صريراً يصم الآذان..
استطاع أن يدخل السعادة وشيئاً من أجواء البهجة والسرور إلى قلب طفل كان يبكي ويتألم ولا يتوقف لحظة عن النجيب وذرف مزيداً من الدموع ويتأوه أيضاً بحرقة اجتثها من سويداء وجذور أحشائه, وعندما يسأله أحد المارة عن دوافع وبواعث بكائه المتكرر والمتقطع، والذي يزداد ارتفاعاً ولا يتوقف، يزعم بصوت متهدج ومتحشرج وهو يكفكف دموعه بطرف كُمّ قميصه الرث ولا يكف عن النجيب وذرف الدموع .. إنه أضاع وهو يلعب ويتسابق مع أقرانه الأطفال (حق الجعالة)، ومش بعيد يكون أحدهم سطا وهو مشغول باللهو واللعب على المبلغ من جيبه ولاذ بالفرار, ثم لا يلبث يدير له المارة ظهورهم ويغادرونه الواحد تلو الآخر وكأن الأمر لايعنيهم أو يحرك فيهم ساكناً..
هذه الظاهرة السيئة والمزعجة في نفس الوقت أصبحت تتكرر يوماً بعد يوم وبين الفينة والأخرى وتطفو بشكل أو بآخر على السطح في العديد من الأرصفة والجولات في أمانة العاصمة وغيرها من محافظات الجهورية والتي برزت بكثافة في أعقاب الأزمة والحصار الاقتصادي المفروض والممنهج، الذي لم يستهدف الوطن وثرواته وموارده وأقوات أبنائه فحسب، بل اكتسح في طريقه أيضاً الأخضر واليابس الزرع والنسل كما أثر سلباً بالمقابل على العديد من مقومات التنمية والخدمات الأساسية التي شهدت مؤشراتها ومعدلاتها نتيجة الحظر وتفاقم الأزمة تراجعاً ملحوظاً وغير مسبوق وشحة في الموارد والإمكانات شملت العديد من مواقع العمل والإنتاج ومصادر لقمة العيش أيضاً .. وفي رصيف ومكان آخر نفس الظاهرة والمشهد السيء يتكرران أيضاً بطريقة لافتة وشفافة تبعث على القلق وإثارة التقزز والاستياء ..ثمة طفل آخر في أحد الأرصفة كان ينخرط أيضاً في البكاء والعويل والناس حوله لا يعيرونه اهتماماً أو آذاناً صاغية وكأنهم يرقبون مسلسلاً فكاهياً أو مشهداً في مسرحية مسلية، وعندما يسأله أحدهم على سبيل الدعابة والإلمام بالشيء عن بواعث بكائه المؤثر والمتواصل يزعم كعادة الأطفال وتلكؤاتهم وبراعتهم أيضاً في انتحال الذرائع والأعذار الواهية والبريئة أنه فقد وسط الزحام المبلغ الذي أعطاه له والده والذي كلّفه لشراء بعض الأغراض والمستلزمات للبيت وأنه لو عاد أدراجه بدونها وهو خالي الوفاض أو صفر اليدين سوف يمزق والده المتعجرف ظهره بالعصا كالعادة ويقوم بحبسه أيضاً بدون أكل أو شرب في قبو الدار مع العقارب والثعابين!!
مشهد مأساوي ومترد آخر من المشاهد المزعجة واليومية التي غدت اعتيادية وجزءاً من الحياة اليومية في أوساطنا هذه الأيام..
ثمة طفلة في عمر الورد وإطلالة الصباح الباكر وهي تتنفس تمد يدها للمارة في إحدى الجولات وللذي يسوى والذي ما يسواش وبيدها الأخرى تقرير طبي مهترئ وممزق وملصق في أكثر من موضع وأكثر من مكان وتقول لهم والدموع تملأ مآقيها وتغمر جزءاً من وجهها الشاحب والصغير أنها تركت أمها في البيت بين الحياة والموت تعاني وطأة المرض وأنه إذا لم تجر لها عملية عاجلة ومكلفة على الفور وبأسرع وقت ممكن قد يتطور المرض ويقضي عليها في أية لحظة بالوفاة والموت المحقق.
وفي رصيف آخر مشهد من المشاهد المزعجة والاعتيادية التي غدت شائعة هذه الأيام في العاصمة وبقية المدن والمحافظات الأخرى.. ثمة أب لا قلب له أو ضمير يتخلص من أطفاله وفلذات كبده القصّر وأمهم العجوز الثرثارة التي يزعم أنها لا تطاق ولا تفتأ تنغّص عليه صفو حياته وتثقل كاهله في الرايحة والجايه بكم هائل من الأعباء والطلبات التي لا أول لها ولا آخر, بالإضافة إلى تصرفاتها وعدم إقلاعها عن ممارسة بعض العادات السيئة، التي طالما جلبت له ولأبنائه الكثير من المتاعب والإشكالات ووجع الدماغ، عندما تحشر أنفها دائماً في شؤون الناس وخصوصياتهم وإفشاء أسرار البيوت وقذفها وبيتها من زجاج وأنه لا يمر يوم إلا واشتبك فيه مع أحد الجيران في مشاجرات ومهاترات لا تنتهي ولا تفض عادة إلا ما في بيت العاقل أو في أحد أقسام الشرطة.. ويزعم أيضاً أن أطفاله لم يعودوا قصراً وأنه صار بإمكانهم الاعتماد على أنفسهم وأن يتحملوا معه جزءاً من المسؤولية ومشقة البحث عن رغيف الخبز الذي غدا مستحيلاً ومتعذراً وأن يشاركوه أيضاً جزءاً من قوت يومهم الذي غدا شحيحاً وزاد من الهم على القلب.
وفي جولة ورصيف آخر يتكرر نفس المشهد المؤثر والمفتعل.. طفل من أطفال الأرصفة يحمل صورة والده الشهيد الذي سقط وهو يدافع عن الوطن وسيادته وكرامة أبنائه ويطوف بها على المارة في الأرصفة والجولات وعيناه مغرورقتان بالدموع ويقول لمن يصادفه إنه وإخوانه القصر وأمهم فقدوا باستشهاده رب الأسرة المعيل والمعين الوحيد لهم في الشدائد والمحن وأنهم أصبحوا على قارعة الطريق يقتاتون من براميل الزبالة وبقايا فضلات المطاعم .. طفل آخر في إحدى الجولات كان يجهش بالبكاء بمرارة والدموع تنهمر من عينيه كالمطر وأمامه فوق الإسفلت بيضاً مسكراً ومتناثراً ويزعم لمن يسأله أن طبق البيض وقع من يده وهو يقطع الشارع وتكسر وتناثر وأنه لو عاد أدراجه إلى البيت بدونه فإن أمه لن ترحمه.. نفس الطفل ونفس المشهد ومسرحية البيض المعطوب والمتناثر أرضاً يتكرران أيضاً في مكان آخر وجولة أخرى هذه المشاهد التي أضحت جزءاً من الهموم والمعاناة اليومية السيئة التي أفرزتها بكل تأكيد وطأة الحصار وتفاقم الأزمة التي تنافي جملة وتفصيلاً أبسط قواعد حقوق الإنسان والتي تزداد يوماً بعد يوم وطأة وتفاقماً وأثرت سلباً على العديد من مصادر التنمية وكل شيء كان رائعاً وجميلاً أيضاً على الأرض قبل الانزلاق في فكي غول الحصار والحظر السائدين.
وأنا أتجول وسط المدينة المنكوبة والأرصفة الباردة والكئيبة يقع بصري على كل تلك المشاهد المؤذية وغير المسبوقة التي أضحت تشكل في أعقاب الأزمة مباشرة والانزلاق في نفق الحصار الجائر والظالم كارثة إنسانية ووضعاً مأساوياً سيئاً للغاية مما يستدعي إلى تضافر الجهود المكثفة لمحوها وإزالة آثارها البغيضة والممقوتة كلياً من حياتنا وعاداتنا وتصرفات أطفالنا فلذات أكبادنا التي تمشي على الأرض لتفادي تفاقم انتشار أخطارها مستقبلاً لاسيما طفل الجولة المسكين الذي فقد كما يزعم (حق الجعالة) وأصداء بكائه المؤثر لا تزال تقرع في أذني أكثر وقعاً وهولاً من الأزمة وطبول الحرب البشعة، وكيف استطاع رجل من أهل الخير إدخال البهجة والسرور مجدداً إلى قلبه بقطعة الحلوى التي لا تساوي الشيء الكثير ولكنها تساوي في ميزان حسناته الكثير والكثير.. ما أحوجنا اليوم أكثر من أي وقت آخر إلى تقديم المزيد والمزيد من تلك المواقف والمبادرات الخيرة والرائعة الصغيرة في دلالاتها الكبيرة في مقاصدها وغاياتها لإعادة البسمة مجدداً لمن افتقدها اليوم من البشر..