بالتاسار غراسيان، هو أحد المؤسسين للفكر الغربي الحديث، عاش في القرن السابع عشر (1601-1658).. قرأ له كبار الكتاب والمفكرين الأوروبيين وعلى رأسهم فولتير ولابروير وباسكال واستلهموا منه بشكل واضح إلى هذه الدرجة أو تلك. هذا الكتاب الذي تزيد عدد صفحاته عن التسعمئة صفحة يتم تقديمه من جديد للقراء الفرنسيين بترجمة جديدة من اللغة الاسبانية مع التعليق عليه وتقديمه من قبل «بينيتو بيلوغران» وهو أستاذ جامعي وكاتب وأحد الأخصائيين الأوروبيين في القرن السابع عشر في أوروبا عامة
وبفكر « بالتاسار غراسيان» بشكل خاص حيث كان قد حضّر أطروحته لنيل درجة الدكتوراه الدولية بتأثيره على المفكرين الأوروبيين بعده. كان الطبيب والعالم النفساني الشهير «جاك لاكان»، أحد ورثة سيغموند فرويد في فرنسا قد وصف غراسيان بالقول: «نجم عظيم» نظراً لما قدمه من تحليلات عميقة ودقيقة حول أركان الحياة الاجتماعية وما قدمه من توصيفات لأشكال السلوك الفردي.. الأمر الذي جعل مترجم ومقدم هذا العمل يعتقد بأنه «يمكن لرجل السياسة اليوم أن يستفيد كثيراً من الآراء التي يطرحها».
تجدر الإشارة أنه هذه هي المرة الأولى التي يتم جمع كتابات «بالتاسار غراسيان» في عمل واحد باللغة الفرنسية.. التي تتماشى مع روح العصر. العنوان «الآخر» الذي عرف به مضمون هذا الكتاب في فرنسا هو «فن التعقل» أو «رجل البلاط».. ولا يتردد مترجم ومقدم هذه «النسخة» الجديدة في القول بأن ما تم تقديمه قبلاً لا يوضح أبداً «البعد الكوني» ـ يونيفرسال ـ لفكر بالتاسار غراسيان والذي يتجاوز كثيراً الإطار «الكنسي» الذي جرى حصره به حتى الآن.
ويعتمد في هذا على مقولة كان «غراسيان» قد وصف فيها إحدى دراساته التي تحمل عنوان «البطل» بالقول إن المقصود هو «تكوين إنسان عملاق بواسطة كتاب قزم».. هذا مع تأكيده بنفس الوقت بأنه يمكن للإنسان أن يكون «عملاقاً» في أي ميدان يمارسه وبأي مستوى اجتماعي كان.
ويرى «بينيتو بيلوغران» بأنه يمكن تمييز «مستويين» للنجاح في فكر غراسيان.. المستوى الأول يخص السباق على النجاح في هذا العالم «على مسرح العالم».. ثم هناك المستوى الثاني والذي يتم قياسه مع ما يتم تحقيقه بالعلاقة مع مفهوم «الأبدية» و«العالم الآخر».. وهذا ما يعبر عنه غراسيان نفسه بالقول بضرورة «استخدام القدرات البشرية» وكأنها وحدها الموجودة و«توخي الأبدية» وكأن «ما هو بشري» لا وجود له. وفي المحصلة يرى غراسيان بأن الهدف الأسمى للإنسان «العاقل والمستقيم» هو الاقتراب بأكبر قدر ممكن من «القداسة».
بالمقابل يبدو مثل هذا «المبدأ» بعيداً عن «رجل البلاط» الذي يبدو «الشك» بمثابة المرشد الأول له.. وهنا بالتحديد يرى «بينيتو بيلوغران» بأن «غراسيان» يتمتع بقدر كبير من الحداثة إذ لا يقدم أية «توصيات محددة بدقة» يمكن أن تبدو كـ «دليل» للاقتراب من القداسة المنشودة.
ولكنه يترك لقارئه حرية اختيار «سبيله الخاص» بالاعتماد على رؤيته وتحليلاته … بل إنه لا يقدم نصيحة … وإنما يؤكد على «حرية الحكم». وبهذا المعنى يؤكد غراسيان على أهمية إعطاء الإنسان جميع الإمكانيات كي يصبح «شخصاً» أي فرداً مستقلاً، و«حراً».. وحتى لو كان هناك بعض «الشك» فإن هذا الشك موضوع في خدمة «مثال» سام يتماشى مع العنوان الأصلي للكتاب عند نشره باللغة الاسبانية عام 1648 ومعناه: «دليل الجيب والمرشد العملي للتعقل».
من الملاحظ أن هذا العمل منذ صدوره في القرن السابع عشر وحتى الآن ظل محافظاً على «حضوره» كي يبدو من القائمة الطويلة للمفكرين ذوي المشارب المختلفة الذين قرأوه وأخذوا منه بهذه الدرجة أو تلك من الوضوح ووصل الأمر بالفيلسوف الألماني شوبنهور إلى ترجمته للغة الألمانية «من أجل استخدامه الخاص»، ثم جرى نشر هذه الترجمة بعد وفاته.. وكان الفيلسوف فريدريك نيتشه قد اعترف بأنه جعل منه أحد الكتب التي لا تفارقه بالإضافة إلى عدد قليل من الكتب الأخرى..
ومن هذا العمل أخذ هذا الفيلسوف الذي طبع عصره بطابع مفهومي «الإنساني» و«ما فوق الإنساني» أو «السوبرمان».. أما في فترة أكثر قرباً فإن «جاك لاكان»، العالم النفساني الشهير، قد اغترف من «تعاليم» غراسيان وحيث أعلن بأكثر من مناسبة إعجابه الكبير بـ «لغته».. ومن الممكن القول أن «اللغة» التي يستخدمها هذا المفكر الذي كان له نفوذ كبير على الفكر الأوروبي مع أنه الأقل أو من بين الأقل شهرة في القارة القديمة، بأنها ـ أي اللغة ـ حية وزاخرة بالمجازات، بل إن العديد من الأفكار المقدمة جاءت بصيغة أبيات شعرية.
القسم الأول من هذا الكتاب الذي يحمل عنوان «البطل» يبدأ بالجملة التالية: «إلى القارئ، الذي أرغب أن أشير له بأنني أرغب المساهمة بتكوين إنسان عملاق من كتاب قزم ووقائع خالدة من فترات عابرة وأن أستخرج من هذا كله إنساناً أعلى، أي معجزة من «الكمال» وملكاً، إن لم يكن بطبيعته فبصفاته، وهذا يشكل امتيازاً..
ولا يتردد في الإشارة إلى أنه قد استقى من صفات «بطله» من تلك المبادئ التي رسمها الكبار قبله من أمثال سينييك وهوميروس وأرسطو وغيرهم.. ثم ينبه قارئه بالقول أنه سوف يرى في الكتاب، ما هو أو ما ينبغي أن يصير عليه». وعلى هذا الأساس يفتح «حوارا» مع قارئه وذلك في أفق هدف أوسع يعاكس تماماً المنهج المكيافيللي القائل بأن «الغاية تبرر الوسيلة»، إذ أن غراسيان يريد أن يجعل «السياسة أخلاقية» وليست «الأخلاق سياسية».
ومع ذلك يميز هذا الكاتب بين ذهنية «سيئة» وذهنية «صالحة» للدولة.. هذه الثانية هي التي تجعل الدولة في خدمة العقيدة الكاثوليكية وليس في خدمة سلطته الخاصة. بتعبير آخر اعتبر بأنه من المطلوب، وباسم الذهنية «الصالحة» للدولة «الاستيلاء على الأرض باسم السماء».
ومن بين العناوين الرئيسية التي يتعرض لها بالتاسار غراسيان «فن التعقل» الذي كتبه بعد وفاة صديقه، نائب ملك منطقة «آراغون» الاسبانية بعد سجنه بتهمة التآمر مع العدو أثناء حرب «كاتالونيا». وهو يبحث في هذا الإطار مختلف آليات عمل «الذهن». وعنوان آخر هو «الرجل الشريف» حيث يرسم تطلعاته إلى مجتمع «نخبوي» من البشر «المثقفين والمؤدبين».
بعيداً عن «المبالغات البطولية».. وضمن نفس السياق يقدم العمل الأكثر شهرة الذي يحمل عنوان: «دليل وفن التعقل» والذي يعرض فيه نظرياته الأخلاقية والسياسية والموجهة هذه المرة إلى البشر العاديين وليس فقط لأصحاب القرار وحدهم على جميع مستوياتهم. وكان المؤلف قد حرص على طبع محتويات هذا العمل على هيئة «دليل» صغير الحجم بحيث يستطيع الراغبون بقراءته اصطحابه معهم أينما ذهبوا.. وهكذا عرف بنفس الوقت توزيعاً كبيراً في عموم أوروبا..
وكانت اللغة الأجنبية الأولى التي تمت ترجمة الكتاب لها هي الإيطالية في عام 1679.. ثم ترجمة «مختزلة» إلى اللغة الفرنسية بأوامر من لويس الرابع عشر، الذي اشتهر بحبه للأدب والفكر.
إن هذا الكتاب يلخص بشكل جيد الوجهين اللذين صبغا الفكر الغربي خلال العقود الأربعة الأخيرة.. أي الوجه «الدنيوي» المادي والوجه «الإيماني» الروحاني.. هذان الوجهان حاول «بالتاسار غراسيان» الجمع بينهما كـ «ثمن للحرية الإنسانية».. وحيث إن «المسؤولية» هي حجر الأساس في هذه الحرية.
ذلك إن «أي عمل معرض لرد فعل وكل سلوك للحكم عليه، فلحظة الحساب ستأتي لا محالة هنا، في هذا العالم، وهناك، في العالم الآخر»… ولهذا «احرصوا على أن تنتهي الأمور بشكل جيد»، يقول غراسيان لقرائه.
بكل الأحوال يتفق النقاد على أن «غراسيان» هو الكاتب الأكثر صعوبة في اللغة الاسبانية. وهذا ما دعا أحدهم إلى القول: «إذا طلبوا من عارف أن يقوم بترجمة «دليل فن التعقل» فإنه لابد وأن يجيب بأن مثل هذا المشروع متهور جداً.. ذلك أن الاسبانيين أنفسهم لا يفهمون بسهولة ما جاء فيه».. ومن هنا ربما تأتي أهمية هذا العمل الذي يتجاوز كثيراً الترجمة إلى التعليق والشرح.. بل ووضع الأفكار في سياقها الراهن.
الكتاب: دراسات سياسية وجمالية وأخلاقية