د. محمد المحفلي
تأسره كعادتها هي المجموعة القصصية الأولى للقاصة اليمنية أسماء عبد العزيز، وقد تضمنت المجموعة ثماني عشرة قصة قصيرة، صادرة عن دار سندباد للنشر والتوزيع بالقاهرة، وعلى الرغم من وجود بعض الملاحظات الفنية والأخطاء التي رافقت هذا العمل، والتي تحمل في أغلبها أخطاء النشر والطباعة، فإنها تمثل محاولة جادة للوصول إلى كتابة سردية تمتلك خصائص فنية قادرة على الوصول إلى مواطن جديدة من الإبداع السردي في اليمن.
يمكن لقارئ هذه المجموعة أن يكتشف الأدوات الفنية التي حاولت المبدعة من خلالها أن تصل برسالتها إليه، وأن تقنعه بتذوق هذا الأداء السردي، بالموازنة بين حاجة الفن وحاجة المجتمع على حد سواء، دون أن يطغى طرف على آخر وبوسائل وطرائق مختلفة باختلاف الفن وتميز أساليبه، وتنوع اتجاهاته. وستقف هذه القراءة السريعة على الجانب الاجتماعي وتجليه فنيا داخل نصوص المجموعة، وكيف انعكست الخيبة الاجتماعية، في مستواها الذاتي والموضوعي، على بناء النصوص، وفي الوقت نفسه، سنتبين إن كانت هذه الخيبة قد عملت على رفد النص بعناصر جديدة أم عملت على تسطيح أفكار النص، وإبعادها عن عمق لغة الفن. تتشكل خيبات المجتمع في مظاهر مختلفة، ومن زوايا عدة، فهناك خيبات اجتماعية مرصودة من منظور الذات الساردة وتحمل تقويمها، ومنها ما يكون مرصودا من أخذ تجليها بذاتها بحيث تظهر تلك الخيبات إلى القارئ دون توجيه من طرف داخل النص أو خارجه، ومنها خيبات على مستوى المحيط بالذات ومنها المجتمع بصورته المقابلة لتلك الذات.
وهي في كل تشكلاتها تتخذ أدوات السرد ولا تقحم نفسها عليه، بل تشكل الخيبة الاجتماعية عنصرا رافدا لتلك السردية. قد تسجل الخيبة الاجتماعية أحيانا بطريقة الوصف (وصف الشخصيات)، وهي تحمل في هذا الوصف المكثف منظورا اجتماعيا ناقدا -من وجهة نظر السارد- فيكون على مستوى عال من التجلي الذي يبتعد عن المراوغة. مثلا في نص “تفاصيل” الذي تدور الأحداث فيه بكل بساطة عن مشهد حوار بين شخصيات غير محددة لكنها تمثل نموذجا لإحدى خيبات المجتمع، مجموعة من النساء المنقبات في حوار مع رجل، الحوار مراوغ يناقش قضية حساسية بشرة المرأة وجهها، ومحاولة الرجل الوصول إلى رسم صورة متخيلة عن وجه الأنثى المخفي تحت النقاب والمحرم
بالنسبة إليه، والأنثى تحاول تقديم صورة مقربة عن هذا الوجه بالوصف ولكن بطريقة غير مباشرة، حيث يتخذ الأمر طريقة وصف سلوك معين متعلق بحساسية وجه تلك الأنثى وكيف يمكن معالجة تلك الحساسية، يبين الحوار بصورة شاملة الخيبة الواقعة بين الذكر والأنثى في هذا المجتمع، وتتخذ تلك الخيبة وجهة نظر صريحة من السارد عبر وصف النساء المنقبات في الحوار بالمتكيسات، بما يحمله لفظ كيس من منظور ناقد لهذا النقاب الذي ينزاح عن وظيفة الحشمة ليتخذ وظيفة مختلفة تماما هي الرضوخ لرغبة المجتمع الذي يفرض هذا الكيس على المرأة ثم بصورة مراوغة يحاول قدر الإمكان الاحتيال عليه وهتكه. إن اللمسة الفنية في تسريد هذه الخيبة هو أنها اتخذت طريقة فنية غير
مباشرة للوصول إلى هذه النقطة العميقة في شكل القصة بصورة شاملة.
ونجد مثلا تصوير هذه الخيبة ولكن أقل تصريحا، ويأتي هنا من منظور بعيد، ففي القصة الأولى مثلا “تأسره كعادتها” تقيم الوافدة الأجنبية، ملبس البنت اليمنية المترجمة التي فاجأها كم الملابس على جسدها طبقة فوق أخرى، بأنها تشبه “الأونين” البصل، بمعنى أن هذه الطبقات هي ما تشكل تلك الشخصية، فالمجتمع هو من يفرض تلك الطبقات، وقد يزيلها ليصل إلى اللاشيء، لا شيء غير القشور بعضها فوق بعض. إنها هنا إزاحة للجوهر الذي يضيع تحت تراكم القشور، ولكن في هذه القصة تأتي من منظور مقابل وبعيد عن زاوية رؤية الساردة.
ويتخذ كشف تلك الخيبة جانبا أكثر حيادية، حين يتم تقديم تلك الخيبة على هيأتها المباشرة لكي يكون القارئ المسؤول عن تفكيكها، واكتشاف فداحة تناقضها بنفسه، ففي قصة لحظة، يقدم السارد مشاهد متفرقة لحوارات مختلفة ولكن لا يظهر إلا محاور واحد، في حين يظل الصوت الآخر الذي هو الجهة الأخرى من خط الهاتف نقاط فراغ، بيد أن الصور تكتمل من خلال تفاعلها مع القارئ الذي يملأ تلك الفراغات، وهي في مجموعها تشكل عددا من العلاقات الاجتماعية غير المنضبطة بمعايير المجتمع ذاته وبالمعايير الإنسانية بصورة شاملة، في حين تبدو المشاهد كلها مرصودة بعين السارد الذي يشهد كل ذلك ثم يترك للقارئ استكشاف فداحة تلك العلاقات غير السوية.
في نص جريمة يبدو أن الساردة قد عمدت إلى النبش في ثقافة المجتمع ووعيه عبر ملاحقة طبيعة تلك الجريمة التي اهتز لها هذا المجتمع للبحث عن الجاني المفترض، بعد زعمهم وجود فتاة مقتولة في ساحة مدرسة، ولكن يتم اكتشاف أن تلك الفتاة إنما هي من اختلاق وعي هذا المجتمع الموبوء بوهم المؤامرة واصطناع المشكلات، فليس هناك جريمة وليس هناك فتاة مقتولة أصلا إذ تعمل المفارقة فعلها آخر النص حين يتكشف أن هناك فستانا سقط من بيت مجاور ليصل إلى ساحة المدرسة ثم يتحول الموقف في الأخير إلى الدهشة من دمية تلك الفتاة التي تشبه الفتاة الحقيقية، فالخيبة تتمثل عند القارئ في عدم معرفته بشكل دقيق عن ماهية الجريمة ومن هو المجرم، هل هو الجهل، أم سلوك
المجتمع غير المنضبط، أم كل ذلك؟ واستطاعت المبدعة من خلال المكان أن تشكل خيبات المجتمع وإن كان ذلك في أصغر حيز ممكن وتكثيف عدد من الخيبات الاجتماعية فيه، ففي نص شارع الخوف، الذي يعد من أصغر النصوص القصصية في المجموعة تتشكل عدد من الخيبات الاجتماعية الصغيرة داخل هذا الفضاء الموحش المتمثل في شارع الخوف، عبر تكريس عدد من الانحرافات الاجتماعية التي يمكن القول إن منظور السارد الذي يوجه الأحداث فيها يسعى إلى نقدها ولكن بصورة لا تصل إلى المستوى الخطابي المباشر، بل بما يحفظ للنص القصصي شكله الفني، إذ يتتبع القارئ سير الأحداث المكثفة في هذا الفضاء الضيق وفي الوقت نفسه يعيد تقييم عدد من المشكلات الاجتماعية التي ترد بصورة غير مباشرة إلى جهازه القيمي المصاحب لتلك القراءة.
الأمر الأخير الذي ينبغي الإشارة إليه في كشف فنيات هذه الخيبة الاجتماعية ودورها الكلي في صناعة الدهشة السردية للمجموعة، يتمثل في فنية صياغة العنوان على الرغم من وجود كثير من العناوين ذات التجلي الأيقوني الذي يعكس مباشرة مضمون النص أو جزء منه، فهناك عناوين لها وظيفة فنية تساعد على اكتمال بنية النص الكلية وتقدير أداة جديدة من أدوات الفن للقصة هذه أو تلك. ففي نص جريمة مثلا نتبين أن الجريمة هي مجرد تمظهر في وعي المجتمع أكثر من كونها تجسيدا لجريمة على أرض الواقع بمعايير المجتمع، وهذا يعكس تناقضات المجتمع بصورة رمزية تبدأ من العنوان وتناقضه مع المتن، وكذلك مثلا في نص غياب، الذي تتصاعد فيه الأحداث كاشفة المزيد من تلك التشوهات في جسد المجتمع لتصل في الأخير إلى عودة هذا الشاب إلى حضن أمه، ليتساءل القارئ بصورة معمقة عن ماهية هذا الغياب؟ وعن أي غياب يكرس السارد دوال النص؟ أسئلة كثيرة يتم حشدها يساعد على ذلك فنية
بناء العنوان، ومعه بناء نصوص المجموعة بصورة شاملة.