الغربي عمران
الروائي الجزائري واسيني الأعرج .. ليس الوحيد من وهب جل أدبه حول قضية واحدة “المورسكيين” فأدباء كثر يماثلونه.. كأمين معلوف الذي انشغل في أعماله بمتابعة جذور أسلافه.. وإبراهيم الكوني دارت أعماله حول عوالم الصحراء الكبرى.. وحنا مينا البحر والبحارة…الخ .
هناك من كتب عملاً أو عملين حول المورسكيين .. لكن كاتبنا يقلب صفحات تلك الكارثة الإنسانية .. محاكم التفتيش التي لم تقتصر على المسلمين واليهود بل تجاوزت إلى المسيحيين .. لتجتث سكاناً من موطنهم في موجة من التصفية العرقية والدينية في شكل كارثة إنسانية.
البيت الأندلسي أحد روائع الأعرج التي اتسمت بالسرد المعرفي الشيق.. ففي البيت نجد الكاتب قدم تاريخا للجزائر وما يتصل بسكانها لأكثر من أربعة قرون.. تاريخ من الدم والعذاب.. من الاحتلال والاستغلال والمقاومة .. من الاستلاب والفساد والظلم والأمل.
البيت الأندلسي مبنى يرمز إلى الجزائر بمكوناتها وموروثها الثقافي .. مبنى يطل على البحر المتوسط من ربوة عالية.. مكون أبدعه الكاتب ليكون المكان أهم شخصيات عمله.. فـ “غاليليو” أو أحمد بن خليل .الذي تصور مخطوطته هول محاكم التفتيش وأساليب التنكيل والتعذيب والقتل الجماعي.. يروي لنا سيرته في وطنه الأندلس وأثناء ترحيله إلى الساحل الإفريقي الشمالي “الجزائر” عش القراصنة.. ومحبتة لحبيبته سلطانة يبنى البيت الأندلسي.. وكأنه يذكرنا بتاج محل. لتلحق به سلطانة سيدة الطرب بعد سنوات إلى الجزائر .
البيت الأندلسي في رمزية إنسانية وطن بتعدد أزمنته.. من روماني إلى ضريح ولي إسلامي.. ليأتي غاليليو بتوسعته على الطراز الأندلسي مع احتفاظه بجدرانه الرومانية والإسلامية ثم على مدى قرون يدخل عليه الأتراك ثم الفرنسيون إضافات فنية مهمة .. ثم تأتي نهايته بحريق يلتهم أجزاءه.. لتسيره سلطة الثورة إلى ركام تباع للمستثمرين.. يخططون لإقامة أبراج سكنية وأسواق .. تلك هي نهاية البيت الأندلسي حين يتكالب الفساد بقوة الأموال وعصابات المتسلطين للاتجار بالأوطان.
ذلك البيت القصر الذي مر بعدة أطوار وعلى مدى قرون في إنشائه.. كما اختلفت وظائفه من قصر يسكنه علّية القوم.. إلى ماخور.. ثم دار للموسيقى.. إلى منشأة مهجورة.. وهكذا تجد أن طابوراً من السكان قد مروا عليه من أتراك وفرنسيين ونافذين وتجار وقادة عسكريين إلى عاهرات وتجار للممنوع .. وأخيرا يحرق ويدمر ويجتث ليبنى مكانه أبراج من الحديد والزجاج .. أو أسواق كبيرة .. منشأة كبيرة كرمز لقوة وتوحش المال.. هكذا ينتهي ذلك البيت على يدي التجار والسلطة الفاسدة ليدمر إرثاً وصرحاً تاريخياً. وذلك الرمز ما هو إلا الجزائر بكل حقب الاستعمار والنضال الوطني.. وحتى عهد الاستقلال.. وفساد سلطاته.. وما تاريخ البيت إلا انعكاس لحالة إنسانية غاية في التنوع.
التقنية التي اتبعها الكاتب في بناء هذا العمل.. بداية بتعدد أصوات الرواية.. الصوت الأول المخطوطة التي تسردها ماسيكا ما خطه غاليليو بلغة الخيميادو.. ثم الثاني السارد مراد باسطا.. وهناك أصوات أخرى تسرد حكايات وأحداث بعض الفصول .. لتختفي في أخرى .. ما لم يسمح بأي رتابة حين يبحر الكاتب في نسج الأحداث التاريخية بدقة متناهية. لينقض مقولة أن التاريخ في كتب التاريخ مقدما لنا روح التاريخ في رواية شيقة دون الخروج عما حدث.
استخدام العامية في الحوارات أعطى الرواية روحا ونكهة إنسانية .. وعمقاً يعطي القارئ إحساساً باكتشاف خصوصية قاع المجتمع. ولم يكتفيبل إنه أورد مفردات ترسبت بعد رحيل الوجود التركي والفرنسي.. بل ومفردات من جزيرة أيبيريا. لتكون لغة أو لهجة هجينة بين العربية وتلك الثقافات المختلفة التي تكون جزائر اليوم.
وظلت نقاط روائية غامضة .. لعل أبرزها العلاقة الملتبسة بين ماسيكا ومراد باسطا.. فرغم حضور ماسيكا منذ الصفحة الأولى.. ورغم قوة إيحاءات ومؤشرات بأن تلك العلاقة كانت عميقة.. وبالذات العاطفية رغم الفروق العمرية الكبيرة.. إلا أن الكاتب وضعها في مجال التأكيد.. فمراد في عمر جدها .. وقد تعرفت عليه أثناء زيارتها وطلاب المدرسة للبيت الأندلسي وهي في صفوف الدراسة الأساسية. إلا أن اختفاءها من أحداث الرواية يبعث على الإثارة في نفس القارئ. فلم يكن لها دور غير دور القارئة للمخطوطة.
المخطوطة محور الرواية ومصيرها الذي كادت النار أن تلتهمها لولا ماسيكا.. ذلك الحضور الطاغي منذ البداية لم يكن مصادفة، فالمخطوطة هي الرواية.. ليذهب بنا الكاتب بعيدا في وجود تلك الشخصيات القادمة من شبه جزيرة أيبيريا .. وكأنها على خشبة المسرح .. حتى حول المخطوطة إلى كائن مثل للرواية خلفية وأرضاً تدور عليه جل الأحداث الكبيرة.. وإن طعمها بضبابية غاية في التشويق.
المخطوطة.. تقدم مشاهد غاية في قبح الإنسان .. تتجاوز الخيال في تعذيب من يراد تعذيبهم والتنكيل بهم حد الموت.. فهناك مشاهد سحق العظام التدريجي ابتداء من الأقدام مرورا بالسيقان حتى الحوض .. وصولا إلى الصدر نهاية بالرأس.. وهناك كمشات نزع الأظافر والأثداء والشفاه واللسان والأعضاء التناسلية للجنسين.. وهناك أدوات البقر ..وهناك هرس الإنسان ليتحول إلى كتلة من الخليط الغريب. وهناك التوابيت التي تغلق أبوابها التي ثبتت عليها عدة نصال وأسياخ تخترق بالضغط أجساد المعذبين تدريجيا حتى الموت. كل ذلك باسم الرب ينفذها رهبان.. موقنين تقربهم لله بتلك الأعمال المقززة في من يشك بأنه على غير العقيدة المسيحية.. وهناك مئات الآلاف من رحلوا وطردوا من أوطانهم ضمن رحلات بحرية جماعية إلى شمال إفريقيا.
هي وثيقة متخيلة .. وإن كان سرد تلك الأساليب يؤكد بأن جريمة بحق الإنسانية قد حدثت.. وتحدث حتى اليوم على أيدي من يتكئون على الله.. ويقدمون أنفسهم حراسا للفضيلة ووكلاء للسماء على الأرض.
الرواية تغوص في تاريخ تكوين المجتمع الجزائري على مدى خمسة قرون .. في مؤشرات لتنوع تكوينه العرقي والثقافي .. إلا أن ما يلفت ذلك الفساد الذي ظل ينمو ويستشري عبر قرون حتى تجلى في عهد الاستقلال وخروج الفرنسيين.. ليبرز كغول مفترس يلتهم كل ما يعترض طريقه .. ذلك الفساد الذي استشرى في الجسم الجزائري وتحكم فيه كسرطان مدمر ما جعل الجزائر ضمن دول العالم النامي رغم مواردها الضخمة التي تهدر وتنهب بشكل سافر ومنظم.. تديره سلطة ظلت تتخفى بجلابيب وشعارات الثورية .. بينما الكل يغرق في فساده الذي تجاوز كل الخطوط . وقد رمزت الرواية بالبيت الأندلسي الذي تعاقب عليه أناس وتغيرت وظيفته مرارا وتكراراً .. لينتهي به المطاف إلى أن يسكنه الجلادون.. والمتاجرون بـ”الغبرى” المخدرات.. والسلاح.. والدين. وكل ما يتعلق بالشخصية الجزائرية.
إذا البيت الأندلسي جزائر مصغرة.. وأيضا يرمز إلى مجتمعات العالم الثالث بشكل عام.. والمجتمعات العربية بصورة أقرب. حين تتسلط أنظمة وأحزاب على مقدرات الشعب.. تنهب وتدمر كل مقومات النهوض بل ويصل بهم الأمر إلى إذلال الشعوب بالقمع والتسلط .. يشابه طريقة تفكيرها تفكير العصابات .. في أساليب السيطرة والاستغلال والنهب والهدم .. والكذب المنظم … وكل تلك المساوئ التي تمارسها العصابات. هكذا جسدت الرواية ذلك الوجود التركي.. ثم الفرنسي وما بعد الاستقلال.
الكاتب في البيت الأندلسي .. خطط قبل البدء بكتابتها.. كمهندس مهني وضع كروكي .. محدد الشخصيات وأدوار كل منها ..الأحداث وتناميها.. موزعا زمن الرواية في فصول محددة. بحيث يرى شخصيات كل فصل وأحداثها كما لو كانت مشاهد متتابعة. معتمدا تقنية التبئير.. لينطلق في سرد الأحداث وتجسيد الشخصيات من نقطتين . النقطة الأولى الزمن الحاضر وشخصيته المحورية مراد باسطا الجد .. إضافة إلى حفيدو سليم .. والفتاة ماسيكا.. من تلك النقطة تسلط الشخصيات طبيعة الحياة التي يعيشونها .. وفي البداية تقدم ماسيكا نفسها .. ثم تختفي.. ليأتي مراد يروي حياته وحياة من حوله ليدرك المتلقي من أول وهلة أن البيت الأندلسي هو المحور الأساسي.. يحكي الرواية بشكل تصاعدي للأحداث.. ثم يعود ليروي ماضي أيامه مع البيت وتل الشخصيات التي تظهر بشكل طارئ ثم يأتي غيها في حركة محورها البيت الأندلسي.. وهكذا يستمر السرد خطوة إلى الأمام وأربع إلى الخلف.. نقطة الحكي الثاني ترويها الرواية من خلال مخطوطة غاليليو.. الذي خط سيرة حياته وما عاشه ويعيشه..أيضا بطريقة تصاعدية .. ثم يعود إلى الماضي وأعماقه.. ساردا أوضاع ذلك الزمن في القرنين السادس عشر والسابع عشر ثم يعود لحاضره ليمضي قدما. وهكذا حتى نهاية الرواية .. يظل الرواة يتحدثون عن حياتهم ثم يعودون إلى ماضي حياتهم وحياة غيرهم. ليشاهد المتلقي نهر الحكاية يتدفق أمام ناظريه بقوة وإدهاش.
وبذلك سارت أحداث الرواية من نقطتين متباعدتين زمنيا.. كل شخصية تمضي بحكاياتها إلى الأمام ثم إلى الخلف.. وهكذا كما هي تقنية اتبعها الكاتب في روايته رماد الشرق.
أيضا اعتمد الكاتب على سرد أحداث تاريخية حقيقة..بشخصيات حقيقية.. وبقدرته الفذة أاتطاع التخلص من تقريرية الأحداث تلك بأسلوبه الشيق وبلغته الرشيقة.. وبذلك الخيال في صنع الحوارات الذاتية وتلك الحبكات المعتمد على الصراع الذي يبعث الترقب في ذهن القارئ .. وكذلك تلك الأزمات بين شخصيات الرواية التي ابتدعها خيال الكاتب.
البيت الأندلسي ذلك العمل الملحمي.. الذي يمكننا اعتباره تاريخاً في عمل إبداعي شيق.
بالفعل عمل يبعث على الحزن.. هكذا وجدت نفسي أثناء رحلة شعب ينكل به ويشرد من أرضه.. مصير البيت الأندلسي حين تلتهمه النيران.. وحين تموت سلطانة روح الفن والتمرد. حين يموت مراد باسطا .. وحين يهاجر سليم.. وبعد محاولات اغتيال الصحفي يوسف.
تلك الأحداث التي تقود إلى نهايات لا تبعث على الأمل.. ليجد المتلقي نفسه أمام لوحات من الحزن الحقيقي.. وكأن الكاتب حكى حكاياتنا جميعاً.