كتبت – سامية صالح
حين تكافئ نفسك وتدللها برشفات من ذلك المشروب السحري الأسمر، يتسلل إليك شعور محبب لا تقدر أن تصفه فتتمنى لو يتوقف الكون عن الحركة ويشاركك لذة الصمت والولوج في عالم المتعة.!!
من منا لم يتذوق البن اليمني – شراب الملوك والأمراء – الذي ذاع صيته في أرجاء العالم وتسابقت على شرائه وزراعته دول عدة.
وقد عرفه اليمنيون في بداية القرن الخامس الميلادي ثم انتقل إلى أثيوبيا والبرازيل وبقية دول العالم حسب تقرير منظمة الغذاء العالمي.
موكا
واليوم لا تجد منطقة على الأرض إلا وتحمل علامته التجارية ( موكا ) ولو بحثنا في أصل الاسم لوجدنا انه تحريف لـ( مخا) الميناء اليمني الذي كان يصدر البن عبره إلى كل البلدان ..
ويكمن سر شهرته إلى مذاقه الذي يشبه الشوكولاته وطعمه ونكهته التي تذكرك باللحم المدخن , ولهذا عرف اليمنيون الكنز الذي يمتلكونه وحرصوا على الاحتفاظ بالبذور لكي لا تزرع في أراض أخرى خارج اليمن وكانوا يشحنون الصناديق المحملة بالبن وهو محمص حتى لا ينمو من جديد في أي تربة لذا ظلت اليمن المصدر الوحيد للبن قديما وكانوا يجنون من ورائه أرباحا طائلة.
الذهب الأخضر
سمي بالذهب الأخضر في ذلك الوقت بل إن الدولة العثمانية آنذاك كانت تعرف حجم القيمة الاقتصادية التي تعود على البلد من ورائه فمنعت نقل أي (شتلة أو غرسة ) خارج اليمن ولجأوا إلى سلق حبوب البن ثم تصديرها لتستحيل زراعتها .
وفي ذلك الوقت لم يكن مشروب البن متداولاً سوى بين الملوك والأمراء والطبقات الراقية ومن شدة ولعهم بهذا المشروب كان يقدم في منزل ( سليمان آغا) سفير السلطان التركي بفرنسا بفناجين من الذهب.
قانون تركي
ثم بدأت الطبقة الحاكمة تروج للبن بين عامة الشعب وتشجع على تناوله وصدر قانون تركي يعتبر رفض الزوج تقديم القهوة لزوجته سببا في الطلاق.
ويرجع السبب في انتشار قهوة البن في استانبول بقوة, إلى رجلين أحدهما من دمشق والآخر من حلب فقد فتحا عام 1554م محلين هناك وبدأ انتشاره بشكل واسع واكتظ المحلان بالزبائن ليلا ونهارا.. بل صار الأدباء والمفكرون ورجال السياسة والرياضة يتجمعون هناك ويتلذذون بطعمه المميز وعقدت على شرف ضيافته الندوات والمؤتمرات وتبادل النقاشات والمناظرات وأطلقوا عليه ( حليب المفكرين ولاعبي الشطرنج) لما له خواص تجلب صفاء الذهن وزيادة التركيز.
وصية
ولم تقتصر شهرته فقط على تركيا بل وصل الى انجلترا وبات المشروب المفضل لدى العلماء والأطباء لدرجة أن كبير الاطباء (هارفي ) بانجلترا أحضر قبل وفاته كاتب عدل وأراه حبة بن وقال له ( من هذه يأتي الحظ والنجاح والذهن الصافي) ومن غرائبه انه أوصى للمهتمين بدراسة الطب في وصيته بكمية كبيرة من البن اليمني من مختبره طالبا من الموصي لهم ان يجتمعوا في ذكرى موته السنوية ليشربوا منه ..
وبالرغم من أن فرنسا في عهد لويس الخامس عشر لم تكن بها شجرة بن واحدة مزروعة على أراضيها إلا أن عدد المحال التي تقدم البن كمشروب رئيسي في باريس أكثر من (600 ) محل .
ضيافة شيخ
يعد البرتغاليون الذين غزوا الساحل الغربي لليمن أول من تذوق من الأوربيين مشروب البن الأسمر وذلك عندما رحب بهم احد مشائخ المخا ودعاهم إلى مشروب دافئ ينعش الجسم ويريح البال .
ورغم تهريب بعض الغرسات وزرعها في دول عدة وانتشار زراعة البن خارج موطنها الأصلي الا ان اليمن الدولة الوحيدة في العالم التي الى الآن لا تزال تزرع البن وتجنيه وتحمصه بطرق طبيعية مئة بالمئة ولا زالت تتفرد بنكهة البن الخاصة والمميزة على جميع الأصناف الخارجية.
وكان المزارع اليمني يقضي طول يومه في مزرعته ويحافظ على شجرة البن كمحافظته على ابنه بل وأكثر.. ويتنوع البن ما بين ( المطري والمحويتي والعدني والحرازي والأهجري واليافعي والاسماعيلي وغيرها ويسمى بأسماء المناطق التي تزرع فيها ويحرص المزارع جني البن على مراحل, فعندما يميل لون الثمرة الى الأحمر الفاتح يقوم المزارع بقطفها ولا يقطف كل الثمار في آن واحد بل يفصل الناضجة عن غيرها ليحافظ على نكهة البن ويعزل الثمار المتساقطة كي لا تؤثر على المذاق ,ولأجل هذا أقيمت مؤتمرات عالمية في اليمن ضمت أفضل متخصصي وحماصي البن في العالم من الدرجة الأولى وكذلك المتذوقين والمهتمين بالجودة .
قصائد في البن
للبن مكانة عظيمة في نفوس اليمنيين وتغنى به الشعراء أشعارهم فقد قال فيه الشاعر والمؤرخ الكبير مطهر الارياني:
يا حارس البن بشرى موسم البن داني
ما للعصافير سكرى بين خضر الجنان
هل ذاقت الكأس الأول من رحيق المجاني
واسترسلت تطرب الأكوان بأحلى الأغاني