الولاء للوطن.. سلوك وتضحية في سبيل حمايته والدفاع عن كرامته وسيادته
إن مما جُبِلت عليه الفِطَر السليمة محبة الأوطان؛ لما لها من فضل على الإنسان في تربيته وتنشئته، وتغذيته وتثقيفه وحمايته، ولما لها من آثار عليه في تشكيل سلوكياته وطبائعه، وإذا كان الوطن هو مهد الإنسان، ومَرتع صباه، ومناط آماله، ومَبزغ فكره، ومسرح نشاطه، ومرعى هواه، ومأمنه من الفزع – فلا بد أن يشعر الإنسان الصادق بحب لهذا الوطن، وبحنين جارف نحوه حين تُبعده عنه ضربات القدر، أو تَحرمه منه أسباب الرزق؛ اعترافًا بجميله، وردًّا لصنيعه ومعروفه.
ولهذا كله جاءت النصوص القرآنية، والأحاديث النبوية، والأقوال المأثورة – لتحضَّ على حب الوطن، ولتقرِّر أن هذا الحب الفطري لا يمكن أن يتعارض مع محبة الله ورسوله، ولتقول: إن الانتماء للأوطان لا ينافي الانتماء للأمة الإسلامية، بل إن الإسلام دعا إلى الانتماء إلى ما هو أصغر من الوطن بمفهومه المعاصر، حين أمر المسلم بأن ينتمي إلى أسرته الصغيرة، ويتحقق هذا الانتماء ببر الوالدين والإحسان إليهما اعترافًا بفضلهما، وكذلك التعامل مع الزوجة والأولاد بالمودة والرحمة، والعمل على خدمتهم ورعايتهم وحمايتهم، وقد اعتبر الإسلام هذا العمل جهادًا في سبيل الله.
ثم أمرنا الإسلام بالانتماء إلى المجتمع الصغير؛ كالعائلة، أو الجيران، أو الحي، أو أصدقاء العمل، ويتحقق هذا الانتماء بصلة الأرحام، والتكافل الاجتماعي، والإحسان إلى الجار والأصدقاء، وزملاء العمل، كما أمرنا بالانتماء إلى الوطن، ودعانا إلى الدفاع عنه، والمرابطة على ثغوره لتأمين حدوده ضد أي عدوان خارجي، والسمع والطاعة لولاة الأمر فيه؛ حتى لا تَشُقَّ عصا المسلمين الفُرقةُ، ثم دعانا إلى التوحُّد الفكري والعقدي والشعوري، حين دعا إلى الانتماء إلى الأمة الإسلامية على اختلاف أقطارها المتباعدة، ولغاتها المتباينة.
السماحة، والرحمة
إننا اليوم في أمَسِّ الحاجة إلى تأصيل محبة الأوطان، وغرْسها في نفوس الناشئة والشباب، وخاصة بعد أن اجتاحت رياح التغيير عواصم عدة في أقطارنا العربية والإسلامية، وصاحبت هذه الرياح فتنٌ اختلط فيها الحابل بالنابل، والتبَس الحق بالباطل، وأصبح الحليم فيها حيرانًا، انقسم الناس بين مؤيد ومعارض، وثائر ومناهض، وعمت الفوضى، وهبَّ الإعلام المغرض لتشويه الصور، وزعزعة الثقة، ونشر الأكاذيب، والإرجاف في البلاد بكل ما أُوتي من قوة، وسار في ركابه الكثيرون ممن لا تُعجبهم فكرة الحكم الإسلامي، وممن يعتقدون أن العودة إلى الشريعة الإسلامية ليست إلا ضربًا من التخبط، وعودة إلى التخلف والرجعية.
إن الإسلام هو في الحقيقة دين السماحة، دين الرحمة، دين الأخوة، دين التعاطف والتكامل، دين التعايش والتفاهم مع الآخرين في صفاء ووئام، دين يفيض بالقيم النبيلة التي تسمو بالبشر فوق مراتب الملائكة
السلوك الحضاري
أما الولاء للوطن، فيتجلى في السلوك الذي يترجم مشاعر الاعتزاز بالانتماء، ويصل إلى حد القبول بمقومات التضحية في سبيل حماية استقرار الوطن وكرامته وسيادته؛ لذلك اعتبر الولاء أولوية في علاقة المواطن بوطنه؛ إذ يجعله أكثر قربًا منه، يعمل بالأخلاقية المتنوِّرة بالقيم لتحقيق مفاهيم الإخاء، والاحترام المتبادل، والسلوك الفاضل الداعم للتآلف والتعاون، وهذا بالذات هو السلوك الحضاري الذي يستطيع الحفاظ على التماسك الوطني وتآزُر المواطنين.
إن الولاء هو القيمة العليا السائدة التي ينبغي أن تكون متحكمة في وِجدان الناس، والإمكانية العظيمة التي تجعل المجتمعات قادرة على تحقيق غاياتها، وهذا يعني بذل الجهود من أجل رُقي الوطن، من خلال تحويل المؤهلات المتاحة إلى طاقات إيجابية، تبدو نتائجها في التقدُّم والازدهار والحصانة».
والوطنية أكثر عمقًا من صفة المواطنة، أو أنها أعلى درجات المواطنة، فالفرد يكتسب صفة المواطنة بمجرد انتسابه إلى جماعة أو لدولة معينة، ولكنه لا يكتسب صفة الوطنية إلا بالعمل والفعل لصالح هذه الجماعة أو الدولة، وتصبح المصلحة العامة لديه أهم من مصلحته الخاصة.
الوطن في ثقافة المواطن المسلم أو في وعيه ينتمي إلى دوائر ثلاث:
الأولى الانتماء العقدي؛ حيث إن المسلم يرى أن الأمة الإسلامية هي أُمته، وينبغي أن يكون ولاؤه الأول للأمة الإسلامية، ثم تأتي الدائرة الثانية، وهي: دائرة الوطن بالمفهوم السياسي والجغرافي، والمسلم أيضًا مطالب بالانتماء إليه، أما الدائرة الثالثة، فنعني بها الوطن العرفي وهو البلد أو الإقليم الذي نشأ فيه الإنسان، وارتبط به، وجدير بالذكر أن هذه الدوائر أو تلك الانتماءات لا تتعارض ولا تتناقض، بل إن كل دائرة منها تُبنى على الأخرى.
حب الوطن
بقي القول أن حب الوطن غريزة فطرية، وقد شجَّع الإسلام على تنميتها، وأكد أن مبادئه السمحة لا يمكن أن تتعارض مع ما فُطِر عليه الإنسان؛ لأن الإسلام في الأساس دين الفطرة.
إن حقوق المواطنة هي حقوق طبيعية يتعيَّن أن يتمتَّع بها كل إنسان، كما يتعيَّن أن توفِّرها وتلتزم بها سلطة الحكم التي تستمد شرعيَّتها من إرادة مواطنيها، وهي ترتبط معهم بعقد اجتماعي ينظم هذه الحقوق، ويحدد الآليات التي تكفل احترامها، وتضمن التزام الطرفين بها.
لا تستقيم المواطنة الفاعلة إلا في ظل حرص أطراف العملية الاجتماعية وشركائها كافة على موازنة الحقوق بالواجبات؛ ضمانًا لتنوُّعٍ يحفظ وَحدة الوطن، ويصون في الوقت نفسه حق الشعوب العربية في تقرير مصيرها، وفي التطلُّع إلى وحدة شاملة تكفُل لهم مواطنة عربية وَفق صِيَغ وآليات، ومناهج تختارها الشعوب بكل حرية.
أن الشريعة الإسلامية تمتاز بالشمولية، وأن الأنبياء أول من قرر حب الأوطان.
إن حب الوطن عقيدة راسخة عند السلف، ولم يُفردوها في مؤلفاتهم لرسوخها في عقولهم وعقائدهم.
إن حب الوطن يتجسَّد فيما يعرف بالمواطنة، وأن هذه المواطنة تقوم على مبادئ ومقومات ينبغي مراعاتها والالتزام بها؛ كي تتحقق المواطنة الصالحة.
تتجلى مظاهر المواطنة في الحقوق والواجبات المتبادلة بين الأفراد فيما بينهم، وبينهم وبين المؤسسات، وبينهم وبين الدولة، وهذه الحقوق والواجبات هي جانب المعاملات في الفقه الإسلامي، قررها الإسلام قبل أن يقررها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان بأكثر من ألف عام.
تترتب على المواطنة أو حب الوطن آثار ونتائج مباشرة، تعود على الفرد بالسعادة والفلاح والتمكين، وعلى المجتمع بالاستقرار والأمن والطُّمَأنينة، والتقدم والرخاء والازدهار.
في ما من الأهمية بمكان:
– إعداد مواطنين صالحين متمسكن بعقيدتهم الإسلامية الصحيحة.
– غرْس حبِّ الوطن في نفوس الناشئة والشباب؛ ليزدادوا اعتزازًا به مع العمل من أجل تقدُّمه وإعلاء شأنه، والذَّود عن حِياضه.
– تدريب رجال الغد على كيفية التصدي لمشكلات مجتمعهم؛ ليتعرفوا من ناحية على طبيعة هذه المشكلات، وليألَفوا من ناحية أخرى أساليب البحث العلمي في معالجة القضايا الاجتماعية.
– غرس حب العمل أيًّا كان نوعه، ما لم يكن منافيًا للدين في نفوس الناشئة والشباب، ليس لأهميته في نهضة الأمم ورفاهية أبنائها فحسب، بل لأنه مطلوب شرعًا، وسبيل إلى مرضاة الله – عز وجل.
– تعريف الناشئة والشباب بمؤسسات بلدهم وتنظيماته الحضارية، وأن هذه لم تأتِ مَحض مصادفة، بل ثمرة عمل دؤوب وكفاح مرير، وأنها في لبابه مرآة صادقة لشخصية الأمة وأخلاقها.
– غرس حب النظام واحترام القانون في نفوس الناشئة والشباب؛ لكون التقيد بهاتين الفضيلتين من مظاهر التمدُّن والرقي.
– تنمية اتجاهات الأخوة والتفاهم والتعاون التي يجب أن تسود المواطنين والناس أجمعين.
– تأصيل بر الوالدين في نفوس الناشئة واحترام الأقارب، والمحافظة على كِيان الأسرة بوصفها النواة الأساسية في بناء المجتمع السليم.
– غرْس قِيم الانتماء والمشاركة والمواطنة والعمل والإنتاج والإنجاز.
– تشجيع الحوار الأسري وتواصل الأجيال.
– تعزيز ثقافة المشاركة والحوار والتسامح والتعايش مع الاختلاف.
– تقبُّل الشباب والإنصات الفاعل إليهم، والعمل معهم بإيجابية وتعزيز ثقتهم بأنفسهم.
– صقل مهارات الشباب في الاتجاه الذي يُلبي متطلبات المواطنة والانفتاح على المستقبل.
– تمكين الطلاب من اختيار ممثليهم في مؤسسات المجتمع المدني بحرية.
– تعزيز المبادرات الطلابية والشبابية الإبداعية التي تقوي الإحساس بالانتماء والتضامن والمسؤولية والقيادة لديهم.
– تطوير مناهج التربية الوطنية لترفع ثقافة النشء الجديد حول الوطن: تاريخه، جغرافيته، مؤسساته، مبادئه الوطنية، أنظمته…إلخ.
– استثمار المنابر التربوية والإعلامية والدينية في تعزيز قِيم المواطنة الصالحة وممارساتها.
– تأهيل المعلمين باتجاه تربية المواطنة والعمل على تطوير قدراتهم في ذلك عن طريق الدورات التدريبية، ووِرَش العمل المتخصصة.
– إعداد برامج مدرسية وجامعية مرافقة للمنهج، من أجل تعميق المفاهيم المرتبطة بتربية المواطنة ونشرها.
– توجيه نشاطات الأندية الرياضية والثقافية لخدمة مفاهيم المشاركة والاندماج والوحدة الوطنية والتنمية.
– نشْر حب الوطن، وتأصيله في النفوس المسلمة، وتعميمه بين الشباب؛ ردًّا لهم، وفتحًا لعقولهم، واستنقاذًا لهم من شراك التكفير والتفجير والإرهاب.
– الإسهام الفاعل والإيجابي في كل ما من شأنه خدمة الوطن ورِفعته؛ سواء كان ذلك الإسهام قوليًّا، أو عمليًّا، أو فكريًّا، وفي أي مجالٍ أو ميدان؛ لأن ذلك واجب الجميع، وهو أمرٌ يعود عليهم بالنفع والفائدة على المستوى الفردي والاجتماعي.
– التصدي لكل أمر يترتب عليه الإخلال بأمن وسلامة الوطن، والعمل على رد ذلك بمختلف الوسائل والإمكانات الممكنة والمُتاحة.
– غرْس الانتماء الإيجابي للوطن، وبيان قيمته، وكيفيته المثلى، من خلال مختلف المؤسسات التربوية في المجتمع؛ كالبيت، والمدرسة، والمسجد، والنادي، ومكان العمل، وعبر وسائل الإعلام المختلفة المقروءة والمسموعة والمرئية.
– تربية أبناء الوطن على تقدير خيراته ومعطياته، والمحافظة على مرافقه العامة، ومكتسباته التي هي من حق الجميع أن يَنعمَ بها، وأن يتمتع بحظه منها كاملاً غير منقوص.
– الحرص على مد جسور المحبة والمودة مع أبناء الوطن في أي مكان منه لإيجاد جو من التآلف والتآخي والتآذُر بين أعضائه، الذين يمثلون في مجموعهم جسدًا واحدًا متماسكًا في مواجهة الظروف المختلفة.
– العمل على أن تكون حياة الإنسان بخاصة والمجتمع بعامة كريمةً على أرض الوطن، ولا يُمكن تحقيق ذلك إلا عندما يُدرك كل فردٍ فيه ما عليه من الواجبات، فيقوم بها خير قيام.
Prev Post
Next Post