رحلتي من الريف إلى المدينة

محمدالمشرع

سطحية الثقافة وانعدام الخيال خطران يواجهان المجتمعات الأكثر تخلفا واليمن واحد من تلك المجتمعات، في البداية سوف أسألكم سؤالاً: من منكم تعرض لصدمة في حياته أدهشته كثيراً؟!
أنا سأتكلم لكم عن واحدة وماذا نستنتج منها..
كنت في السنة العاشرة من عمري وأنا أسكن في القرية ، كنت أنظر إلى فضاء القرية أو فضاء العزلة وكنت أحسب في نفسي بأن هذا الفضاء المحدود كله هو الأرض بكاملها أو يزيد عليه خمسة أضعاف لما يجاورنا من القرى، لكني كنت أسمع عن البحر ولم أنظره بعد ، وهنا كنت أشكك في تصوري عن حجم الأرض الحقيقي، وذات يوم نزلت المدينة بصحبة عمي، لم يكن أحدمن قبل أعطاني خيالاً أو وصفاً لما يمكن أن أراه في المدينة ولكن ماحدث لي كان صدمة لي ،، حين رأيت العديد من السيارات بأشكالها المختلفة ورأيت ناساً كثيرين مختلفة أشكالهم، ورأيت مباني ضخمة وطرقاً معبدة بالأسفلت حتى وصلت إلى قفص ذلك الأسد الذي كنت أسمع حكاية أمي عن وحشيته وقوته وجدته أسيرآ في قفص الحديقة هذا ورأيت أشياء كثيرة مثيرة للدهشة ، في حينها عمت في وجداني الفرحة الغامرة لما وجدت من أشياء لم أكن أتخيلها أبدا وهنا كانت الصدمة ! فسرعان ماتحولت فرحتي إلى كابوس وضيق وأشتقت كثيرا للعودة للقرية حيثما أجد ألعابي البدائية ،فغادرت المدينة بعد ثلاثة أيام فقط من وصولي إليها إلى القرية وعند وصولي إليها تنهدت بصوت مرتفع وقلت ما أجمل أن أظل في قريتي ،
وهنا سبب صدمتي كان بسبب سطحيتي لم أكن أمتلك معلومات عن المدينة ولم يحدثن أحد عن المدينة وأسلوب الحياة وطبيعة العيش في المدينة ،،
.. رغم أنني لست طبيباً نفسياً ولا عالماً إجتماعياً إلا أنني أفترض أن عقليتي لم تكن مهيأة لاستقبال هذا المنظر، في حين كانت خبرتي البصرية “سطحية” وإنعدام للتجربة والخيال في آن واحد ،.. على أية حال.. دعونا الآن نستعير هذه الحادثة لتفسير ظاهرة ذهنية موازية:
فحين تولد في ثقافة محلية منغلقة فأنت كمن يعيش في القرية ويرى الدنيا بطريقة قروية (بالطول والعرض فقط).. أما حين تسافر إلى بيئة مختلفة أو تقرأ كتبا مختلفة،فإنك تسافر من بيئتك المسطحة والقروية ، وتراها وتضيف لإرشيفك الذهني بعدا جديدا (يضمن سفريات أكثرمن الجميع).
فقراءة كتاب جديد تضمن سفرية جديدة في حياتك وتضاف لك درجة في سلم العلم والمعرفة، وتواصلاتك مع ثقافة مختلفة يعني ارتفاعاً جديداً في تعداد السفريات في “بناية” التسامح والفهم، وجلوسك مع عالم أو خبير أو مثقف أو فيلسوف توقفك عند بداية أفق جديد.
فكلما سافرت سفرية “جديدة” كلما رأيت لمسافة أبعد وأكبر .. وكلما سافرت إلى “مدينة ” كلما شاهدت أفقا أوسع.. وكلما تسلقت هرم المعرفة كلما استوعبت حواسك محيطا أكبر.
صحيح أنك ستصاب في البداية بالرعب وارتباك الحواس (كطفل يزور المدينة بمفرده) ولكنها بمثابة الصدمة الأولى التي تهيئك لاحقا للصعود ورؤية الدنيا من زاوية مختلفة.
قد لا يصدقك الآخرون حين تخبرهم أنك رأيت (كذا وكذا) لأنهم مايزالون يعيشون في القرية القروية المغلقة تحيطها العوائق بمستوى واحد.. لن يؤمنوا بكلامك وأفكارك لأنهم لم يشاهدوا ما شاهدت ولن يفهموا ما أصبح جليا أمام ناظريك.. أما المصيبة الحقيقية فهي ثقتهم العمياء بواقعهم المتخلف المتقوقع لأنه الوحيد الذي عرفوه وألفوه وشاهدوه طوال حياتهم!!
ورغم أنهم الفئة الغالبة في كل مجتمع إلا أنك لست فريدا بينهم.. فهناك أشخاص مثلك أصبحوا طوال القامة، إما لأنهم سافروا بواسطة الكتب، أو حلقوا بالجو على أكتاف العظماء، أو ضلوا عند مجتمعاتهم المسطحة والمتخلفة يسبحون في أوهامها بشكل دائرة مغلقة..
ولكن يعاب عليهم الخوف من التصريح بكل ما شاهدوه أو عرفوه أو استنتجوه أو رأوه قادما من بعيد.
فهم في النهاية بشر يخشون مصير زرقاء اليمامة التي رأت الأعداء قادمين (من مسيرة أيام) فكانت النتيجة قلع عينيها وصلبها أمام الجميع..:
فياصديقي العزيز
لا تخبرني عن أول مرة أنصدمت فيها بشكل كبير، بل عن آخر مرة نظرت فيها لأبعد من أنفك الصغير.

قد يعجبك ايضا