جناية الأحزاب المنحرفة على الشعوب المتخلفة
من المؤكد أن مؤرخي المرحلة الحالية عربيا ومحليا سيقفون طويلا عند الأسباب والعوامل التي أدت إلى الكارثة الراهنة هذه التي باتت تأكل الأخضر واليابس في الوطن العربي ولا تبقي على أي شيء جميل. وسيتوقف المؤرخون كثيرا عند الأدوار السلبية التي لعبتها الأحزاب العربية في إيصال الأمور إلى ما وصلت إليه. فقد طوحت هذه الأحزاب بمهمتها الوطنية والقومية وتحولت إلى بؤر من الصراع الذاتي الدامي والاستبسال في الاقتتال على السلطة. وعندما كان واحد من هذه الأحزاب يستولي على الحكم فقد كان يجعل مهمته الأولى والأساس الانتقام من الأحزاب المنافسة أو الطامعة في الوصول إلى السلطة والحكم على قادتها بالموت أو النفي لتعمل بدورها على انتظار الفرص المناسبة للانقضاض على النظام الحزبي الحاكم لترد له الصاع صاعين. ولا تحتاج هذه الحقائق المعاشة إلى وثائق وبراهين فقد عاصرها الجميع وتابعتها الأجيال. وآخر ما شهدته بلادنا من الخلافات الحادة غير المبررة بين الأحزاب والجماعات التي لا تريد أن تسمي نفسها حزبا ومن نتائج تلك الخلافات العنيفة ما نراه وما يعاني منه الشعب على أكثر من صعيد.
ولو بحثنا في المكتبة العربية وفي المكتبة العالمية أيضا عن وثيقة موضوعية تحصر الأثر السلبي للصراعات الحزبية (الذاتية الضيقة) وما أسفرت عنه من تخريب فادح في وعي وواقع الشعوب المختلفة لما وجدنا أفضل وأعمق من هذا المقطع من قصيدة للشاعر ألأرمني “كريكوريان” وفيه يتحدث عن الخلافات الحزبية التي أرهقت كاهل وطنه والمقطع هو:
* “الحزب الأول يحب الشعب وهو يناضل بحماس كي يرفع من مستوى معيشة الشعب.
* الحزب الثاني يحب الشعب كثيرا وهو يناضل ضد الحزب الأول بحماس كي يرفع من مستوى معيشة الشعب.
* الحزب الثالث يحب الشعب كثيرا جدا وهو يناضل ضد الحزبين الأول والثاني بحماس كي يرفع من مستوى معيشة الشعب.
وهاهو الشعب البائس بالكاد يرى بين الأكاليل الأنيقة وهو مغلق عينيه إلى الأبد وهو الذي لم يبق منه سوى النظام السلطة الكلية الشمولية وهو محاط بحب الأحزاب الشامل”.
ليس هناك من هجاء موضوعي وصريح للأحزاب المنحرفة عن دورها أو التي تخلق عن مهمتها السياسية الوطنية التاريخية كهذا الهجاء الذي يكشف بوضوح وسخرية لاذعة أثر الصراعات
الذاتية/الثانوية الدائرة بين الأحزاب وفضح المهمة المغلوطة أو بالأحرى المشبوهة التي تقوم بها وأثرها في حياة الشعوب هذا الأثر الذي يزداد فعله السلبي بفضل هذا النوع من الأحزاب التي تزيد من مراكمة واقع التخلف عمقا وبؤسا وتمزقا وقد يقول قائل: كيف تريد لأحزاب يفرزها واقع غارق في الجهالة والأمية والتناحر الطائفي والقبلي¿ هل تريدها أن تكون صورة طبق الأصل من الأحزاب السويسرية أو أحزاب الدول الاسكندنافية. إنها التعبير المباشر والمتاح عن واقع شعوب تعيش في قعر التخلف وحضيض الخلافات شعوب أفقدتها نخبها وقياداتها السياسية الشعور بآدميتها وبقيمتها الإنسانية شعوب استطابت الهوان وقيل أنها قاومت الاحتلال الأجنبي ليخرج من الباب ويعود من النافذة. شعوب يسلمها السلف إلى الخلف ويسلöم معها أكبر عدد من السجون وأكبر كم من السياط والهراوات والجلادين الذين امتازوا بأقصى ما يمتاز به بعض المحسوبين على البشر من فظاظة وغلظة.
إن كتابا واحدا أو كتابين أو أكثر لا تكفي لدراسة ما أسفرت عنه الخلافات الحزبية في بلادنا ولا تعطي صورة واضحة عن المشهد الدامي الذي صنعته الخصومات والرؤى المغلوطة والاصطفافات العدائية التي مكنت أصحاب المصالح الآنية وذوي الاجتهادات العمياء من الانحراف بالمسار الوطني ومساعدة الآخرين على إفشال كل محاولة للالتفاف حول برنامج واحد من البرامج الجامعة التي وافقت عليها كل الأحزاب ولا أظن أن الحرب الدائرة والاقتتال الداخلي المستمر سيخرجان البلاد من محرقتها أو يبدلان من المواقف الحزبية المتمرسة وراء شعار “أنا ومن بعدي الطوفان” علما بأن الطوفان قد بدأ وأنه في طريقه إلى أن يغرق الجميع إذا لم تحدث الصحوة المطلوبة الآن وقبل فوات الأوان.
أين صحيفتا الشارع والأولى¿
هذا هو السؤال الذي يتردد صباح مساء في أوساط المثقفين ودعاة الرأي والرأي الآخر. وقد يقول البعض أن الظروف الاستثنائية لا تتحمل سوى الرأي الواحد وهذا مفهوم خاطئ فالرأي الآخر يسند الرأي الواحد ويعطيه قوة على البعدين القريب والبعيد.
تأملات شعرية:
ليسمح لي القارئ بأن أعيد نشر هذه التأملات التي مضى على نشرها سنوات لما كانت تحمله من دلالات ولا أقول تنبؤات مبكرة:
كان ثمة حلم -ومازال-
في أن يكون الصواب طريقا
إلى غدنا المشترك.
لا نجاة لهذه البلاد
وأهل البلاد من العاصفات
سوى القاسم المشترك.
وتقول