إشكالية الأجناس الأدبية (1)

رياض حمادي

يثير كتاب “رحلة في الذاكرة” (1), لمؤلفه الدكتور قاسم عزعزي, إشكالية تتعلق بنظرية الأنواع الأدبية. ففي المقدمة وصف الأستاذ جلال عبدالقوي الحمادي “رحلة في الذاكرة” بأنه: “كتاب” وهو “نسيج إبداعي بقالب قصصي ذاتي واقعي متسلسل ومترابط فيه العديد من الهموم والقضايا والأحداث الخاصة والعامة المتعلقة بالوطن.”(2). وهو بهذا الوصف يتهرب من التجنيس وإن كان قد أشار إلى مطابقة محتوى الكتاب التاريخي والواقعي لحياة مؤلفه.
فأي نوع من الكتب هو “رحلة في الذاكرة” ¿
تبدأ رحلة الكتاب بالحيرة والتذبذب في اختيار موضوعا للكتابة. والحيرة أو “الذبذبة بين الماضي والحاضر تظهر أكثر ما تظهر في افتتاحية الرواية الواقعية”كماتقول سيزا قاسم في كتابها “بناء الرواية”. ومثل هذه الحيرة تكون عادة مرتبطة بكتابة السيرة الذاتية لذلك يلجأ السارد إلى اتخاذ طابع “السارد العليم” بكل شيء الحاضر في كل مكان ليقدم رؤية سردية من الخلف بحسب تودوروف. فيستخدم ضمير الغائب بدلا عن ضمير المتكلم, وكأن الآخر هو الأقدر على سرد حكاية الذات لقدرته على رصدها كموضوع. وثمة حيرة تنتج عندما تكون السيرة الذاتية مرتبطة بسيرة اجتماعية وسياسية لا تستعرض الوقائع فقط بقدر ما يهمها تتبع تطور القيم والمبادئ أو نكوصها في مجتمع معين.
فهل الكتاب الذي بين أيدينا سيرة ذاتية ¿!
يعرف فيليب لوجون السيرة الذاتية بأنها عبارة عن “حكي استعادي نثري يحكيه شخص واقعي عن وجوده الخاص عندما يركز على حياته الفردية وخصوصا على تاريخ شخصيته.”(3). هذا التعريف ينطبق على “رحلة في الذاكرة” لولا أن هناك خصائص أخرى تمتاز بها السيرة الذاتية من حيث ارتباطها بالواقع. كما أن لها ميثاق, بحسب لوجون, ينبني “على تصريح الكاتب بأنه يحكي حياته ويعرض مسار أفكاره ومشاعره.”. (4). وهذا الميثاق يتحقق بطريقتين: ضمنية أو جلية.
فمن ناحية ضمنية: يجب أن يحقق التطابق بين المؤلف والسارد والشخصية. مثل استعمال عناوين:(قصة حياتي, سيرة ذاتية, …) لا تترك شك حول ضمير المتكلم الذي يحيل إلى اسم المؤلف.أو من خلال “مقطع أولي للنص يتحمل فيه السارد التزامات أمام القارئ وذلك بالتصرف مثل المؤلف, بطريقة تجعل القارئ لا يحمل أي شك حول كون الضمير المتكلم يحيل إلى الاسم القائم على الغلاف, وإن كان هذا الاسم غير وارد في النص.”. ومن ناحية جلية يجب أن يكون الاسم الذي يأخذه السارد – الشخصية في المحكي نفسه, “هو نفس اسم المؤلف المعروض على الغلاف.”.(5)
ثمة عناصر أخرى مثل:”استخدام ضمير المتكلم, والمطابقة العلمية, والتأرجح بين المسوغ الذاتي (الحياة الفردية والشخصية) والاستقراء الخارجي (استقراء أحداث الواقع), وتمثل النثر والكتابة السردية المحكية طريقة في التعبير, والميل إلى استخدام الزمن الهابط وتقنية الاسترجاع والفلاش باك.”. (6)
ومن الخصائص الأخرى للسيرة الذاتية اتخاذها “عدة أنماط تعبيرية كالرواية والقصة والدراما والكتابة الفكرية والإخبارية والسيناريستية” (7). وقد وجدنا أن هذا الكتاب بدأ بنمط قصصي وانتهى بنمط تقريري وتخلله – إلى حد ما – الطابع الفكري والإخباري.
عنصر مهم في السيرة ذاتية, وهو ضرورة مطابقة وقائع الحكاية في السيرة لحياة المؤلف في الواقع, وهذا ما تحقق في هذا الكتاب إلى حد لا يمكن للقارئ الجزم فيه إلا بشكل ضمني. أخل الكتاب بخاصية مهمة تتعلق بعدم تطابق اسم المؤلف مع اسم الشخصية الرئيسية, وكذلك استخدام ضمير الغائب بدلا عن ضمير المتكلم. لكن استخدام ضمير الغائب لم يمنع اعتبار كتاب “الأيام” لطه حسين كتاب سيرة ذاتية وكذلك الحال بالنسبة لسيرة رولان بارت, فاستخدام ضمير الغائب في هذه الحالة يساعد على التملص من نبرة الاعتراف والبوح مثلما يمكن للمؤلف استخدام ضمير المخاطب “أنت” من أجل مواساته أو وعظه. وهناك جانب آخر يشترك فيه هذا الكتاب مع كتاب طه حسين من حيث الإيقاع السردي, فكلاهما “سيرة تمجيدية تشيد بانتصار الشخصية الرئيسية على مثبطات الواقع”.
فيما يتعلق باختلاف اسم المؤلف عن اسم الشخصية الرئيسية فإن سؤال لوجون حول هذه المسألة يطرح نفسه: “هل يمكن أن يكون للشخصية في سيرة ذاتية معلنة اسم مختلف عن اسم المؤلف ¿.”. يجيب لوجون: “قلما يمكن ذلك. وإذا اختار صاحب سيرة ذاتية هذه الصيغة, لأثر فني, فستبقى لدى القارئ شكوك دائمة … إذا كان التناقض الداخلي مختارا بشكل قصدي من طرف المؤلف فلن يؤدي أبدا إلى نص سيقرأ باعتباره سيرة ذاتية, بل وحتى باعتباره حقا رواية, ولكن إلى لعب من الغموض. وحسب معرفتي, هو لعب تقل فيه الجدية.” (8).
استبدل المؤلف اسمه باسم “متعوب”, مثلما اتخذ عبدالله العروي من اسم “إدريس” بديلا لاسمه في سيرته “أوراق” وكذلك فعل جان دوست في روايته “دم على المئذنة” من خلال اسم “صالح”. اختلاف

قد يعجبك ايضا