يغامر بصمت القصيدة ودفء النص

صلاح الأصبحي


صلاح الأصبحي –
من بين كثير من الشعراء الألفينيين في اليمن المغامرين الخارجين عن نسق المألوف الطامحين بكتابة جديدة ولغة مغايرة , ظهر الشاعر حمود الجائفي كسحابة تحمل معها الماء والورد , الروح والموسيقى , الذات والعالم , التجربة والأصالة , العذوبة والمعاناة , الهدوء وقليل من العاصفة , هكذا يبدو لي الشاعر حمود الجائفي, المظلل بالشعر والمشقر بوهج اللغة وليونتها , يغامر بصمت القصيدة ودفء النص في احتضان الجديد والمناداة به.
حمود الذي بدأ بكتابة الشكل العمودي , وكان له معطاه الخاص , الذي يظهر روحه ونفسه الشعري أكثر من الالتزام بلوازم الشكل العمودي, وذلك لكون روحه يكتب شöعره , روحه التي تختزل شعوره ومشاعره الحية المتأنسنة بحب الحياة والإنسان .
وتنقل بعد ذلك يكتب التفعيلة بنكهته الخاصة, التي لا يباهيه فيها إلا شöعره , وله محاولات في كتابة قصيدة النثر , وهذا التنقل الحميم في كتابة أشكال شعرية مختلفة إنما ينبئ عن أفق الشاعر وتجاوز المساحة الواحدية في تجربته الشعرية , يتعدد حيثما تتعدد جسور المعنى ولمعان القصيدة , يكابد جوهرا شöعريا وشعوريا من أجل الوصول إلى حانة الشعر الحقيقية , يرضع من ثديها كأسا حالمة بالبقاء , ولا يهمنا بقاءه أو مغادرته لشكل دون آخر , وإنما نهتم بتجربة شاعر كحمود وإمكانية التعرف على جوهرها, وملامسة عبقها, وتجسيد ملامحها الفنية ,حتما نريد أن يلتفت القارئ أيا كان نوعه أو مستواه لتجربة شاعر يقبع في الظل , شاعر ليس صوتيا أو إعلانيا , وإنما يشتغل على تجربته من زوايا مختلفة , يحث خطاها ويبدد أحلامها واقعا , ناجزا كل طموحاته فيها .
تتقاطع ملامح قصيدته مع مداها , حيث لا تقتصر في جسدها بل تتحرك نحو حساسية مفرطة في التماهي مع حقيقتها , لذا يلزم قراءة نصه من النص نفسه لا من خارجه , قراءة النص بأدوات النص لا بأدوات غيره , والتفاعل الفني داخل النص ,هو من يأخذ القارئ نحوه , ففي قصيدته : ( من نواصي الشبه ) يقول :
وعنكö
وجدت تشابها
في كل أروقة الندى
في الغيم كان
وفي الدروب
وفي الجهات
وفي الغواية والهدى
كانت لها لمعان
تربك فكرة المنفى
وتوغل في يباب الأمكنة.
و في هذا المقطع تجده أكثر انسجاما في رسم لوحة نصه وفي تحديد مسار أفقها , لكنه يطلق لها عنان غوايتها ,لا يقيد مداها , حيث تنقل للآخر هواجس مختلفة, أحالها الشاعر في زوايا عديدة , ومهما تباعدت لكنها قريبة بتشابه حسيتها ورهافة اللحظة الشعورية التي تمثلتها روح الشاعر أكثر من معانيه, ليضيف على نصه حيوية التقارب بين مشاعره وأبعاد إدراكه , إلى أن يتفوق في الاتصال بتلك اللوحة الداخلية للذات التي تعاني الغربة والمنفى , كما في قوله :
لايستقيم بها المدى
جاءت حدودها
باتجاه واحد
ومشيت فيه
ودلني أبقى
ليجمع من أقاصيك البعيدة
من فراغك
مرشدا
وصبرت
أحتمل الجراح
وأحتويني
كلما آنست من وجلي الرياح
تنفست رئتي
لمحت أنامل تمشي
ويهمس لي الصدى
أن التي مرت
تشظى دربها
ولهاتفاصيل
تكرر مثلها
وكأنها
لاشيء أذكره ولا وصف
ولم يبق بمرآتي
ملامح ظلها
تمضي!
ويحجبهاسدى الماضي
تمضي !
وتفتح للذي يأتي الغدا .
وحين تتابع مدارات هذا اللوحة المؤلمة والتراجيدية تزداد يقينا بدوافع الصلة بها ,لأنها لا تجعلك تنفلت من مسارها المحتوم , الذي يغمسك في هاويته بقناعة , قد يبدو الشاعر متشتتا في هذا اللحاق الصوري والغواية الشعرية في تجسيد حالته, إلا أنه يبحث عن خيارات أوسع ومنح القارئ فرصة التأمل والشعور بنفس الشعور الذي يعتري الشاعر وهو يكتب نصه, وما إن تحوم خارجا من هذا النص إلا أنه يجذبك نحو خفايا أخرى قد لا تلتفت لها منذ اتصالك به أي النص , من هذه الخفايا البقاء في النص وارتسامته بشكل أطول في لا وعي القارئ , لأنه يمثل تجربة مفرغة في لا وعية فيأتي النص يملأها بهذا الشعور التي تترجمها وتدغدغ صمتها.
ليس هذا النص وحده يستحق الوقوف , وهناك نصوص وأجزاء من نصوص للشاعر تمثل بين أيدنا , وبمقدورها الصدارة والامتاع وفيها من الجمال ما يكفي لنبشه وكشفه .
ففي نص منشور له بعنوان « من اتجاه السفر « وقد يبدو من سفر التوجه نحو الآخر , على اختلاف طبيعة هذا الآخر, إلا أنه يتوهج برفقه الآخر وينشئ جسرا للتواصل وساحة للبوح ,كون المبدع لوحة يرى الآخر فيها أخطاءه وتفاعلاته المتعددة , وقد لا يقوى على رؤيتها فيطلقها الشاعر كما لو كانت انعكاسا لذاته ,

قد يعجبك ايضا