في الرمز والرمزية

كتب/ خليل المعلمي

عندما شرع الكاتب ياسين الأيوبي في وضع كتابه “مذاهب الأدب.. معالم وانعكاسات” الخاص “بالرمزية” في مطلع الثمانينيات من القرن الماضي تكشفت لديه في مدارج الفكر وحضارات الشعوب وآدابها فلم يحب أن يضيف على كتابه ذاك تجنبا للإطالة والتوسع لأن غاية الكتاب كانت معالم المذهب الرمزي في الزمن الذي نشأ فيه وتكون ثم انعكاسات ذلك على أدبنا العربي.
فأبقى على ما تم تدوينه في تلك الفترة لعله ينشره مستقبلا وبعد ثلاثين عاما من تلك الفترة قام بجمع ما تم تدوينه وتم إعادة النظر ببعضها صياغة وتوسعة حتى خرج لنا بكتاب “في الرمز والرمزية” في خمسة فصول أصدرته مجلة الرافد في عددها سبتمبر 2014م وفيه تختلط بخور الأيقونات بعبير الجمال الذي نتطلع إليه دائما بوعينا ولا وعينا ذلك أن الرمز وكل مشتقاته والأدب وكل فنونه وأجناسه.
بداية تحدث المؤلف عن ماهية الرمز وتعريفاته والاشتقاق التاريخي له وآفاقه مستعرضا أنواعه وخصائصه ومقوماته ويؤكد أن التعريفات التي أعطيت للرمز كثيرة ومتنوعة بعضها اتخذ منحى مبسطا وآخر عني بمضمونه وتفريعه ومما قيل عن الرمز “هو كل ما يحل محل شيء آخر في الدلالة عليه لا بطريق المطابقة التامة وإنما بالإيحاء أو بوجود علاقة عرضية أو متعارف عليها وعادة يكون الرمز بهذا المعنى شيئا ملموسا يحل محل المجرد كرموز الرياضة مثلا التي تشير إلى أعداد ذهنية وهناك وجه أكثر تعقيدا للرموز هو الشيء الملموس الذي يوحي عن طريق تداعي المعاني إلى ملموس أو مجرد كغروب الشمس مثلا الذي قد يدعو إلى التفكير في حالات الضعف والسكينة والشيخوخة أو تصوير رجل هرم رمزا للشتاء”.
وتناول المؤلف نشأة وتطور الرمزية حيث توقف الدارسون عند بدايات الحركة الرمزية الأولى فكان هناك شبه اجماع على أن فلسفة أفلاطون المثالية هي إحدى المحطات الكبرى في رفد المذهب الرمزي نزعته الجمالية المثالية ولكنهم يختلفون فيما عدا ذلك أو بالأحرى يجتهدون في رصد المحطات القديمة الأخرى فبالإضافة إلى ذلك هناك ظاهرة الشعر الميتافيزيقي إبان القرن السابع عشر وهو شعر كان يراد به اكتناه الطبيعة وتجاوز المستويات السطحية للأشياء واصطناع الدهشة أمام حقائق الحياة المألوفة والتعبير عن ذلك بطريقة مجازية تشبه الطريقة الرمزية.
واستعرض المؤلف عددا من أعلام الرمزية أمثال الشاعر الفرنسي “جيراردو نرفال” الذي تنسب إليه البداية الفعلية للأدب الرمزي ويعد الممهد المباشر لكل من الرمزية والسريالية وكذلك الموسيقي “ريتشارد فاجنر” حيث اعتمد الرمزيون قواعده الموسيقية مثالا أعلى في كتابة أشعارهم.
ويشير المؤلف إلى أهمية الرمز في حياة الشعوب حيث أشارت الدراسات الانتروبولوجية الحديثة من خلال معايشة عدد من القبائل والجماعات المعزولة التي تعيش في مناطق نائية من العالم والتحليل التاريخي واستقراء عدد كبير من الأساطير والمعتقدات الشعبية القديمة إلى جملة تفسيرات وخلاصات تفيدنا أن الإنسان البدائي قد قام من تلقاء نفسه وتبعا لفطرته وإلهامه الغريزي بتفسير الكون وعناصره ووضع بعض الحلول لمشكلاته عن طريق رموز وأشكال من السلوك والممارسة لا تفرق بين الحسي الملموس والغيبي المجرد ويضيف أن اللغة قد مثلت أحد أهم أشكال التعبير الرمزي لدى الشعوب وبواسطتها استطاع الإنسان الاحتفاظ بموروثه الفكري والحضاري والثقافي.
وتطرق إلى العلاقة بين الرمز والأسطورة والتي تأخذ بعدا أعمق وأدعى للتأمل مستعرضا نشأة الأساطير وأنواعها والتعرف على مزاياها من خلال استعراض عدد من الأمثلة الأسطورية وعلاقتها بالتاريخ الإنساني.
وبين الأيوبي علاقة الرمز بالأدب من خلال الربط بين الأدب واللغة والرمز والشعور والرمز والفن الشعري وقدم شرحا لهذه العلاقة من خلال أقوال عدد من الرموز الأدبية في القرن الثامن عشر والتاسع عشر وسعى من خلال ذلك إلى الالتفات الهادئ نحو مسارها وخيوطها الدقيقة التي لا يكتشفها إلا الباحث المعاني فالرمز ليس قناعا يضعه الشاعر فوق الألفاظ والمعاني ولا هو جواز مرور يعبر به الشاعر من واقعه النفسي الضيق إلى واقع آخر أوسع بل هو شرايين القصيدة وأوردتها التي تنبض فيها بالحياة والديمومة.
وخصص المؤلف الفصل الأخير من الكتاب للحديث عن أعلام الأدب الرمزي وذلك كما يقول استكمالا للبحث عن مصادر الرمز والوقوف قليلا عند الذين جسدوا هذه المصادر وسكبوا معينها وجاؤونا بثمارها اليانعة وإذا كانت النصوص والأعمال الرمزية والأسطورية جسد الرمزية وعمودها الفقري فإن أصحابها وصاغتها هم الذين منحوها شرف الوجود والاستمرار.
ووقع اختيار المؤلف على كل من “وليام بلايك” و”إدغار ألن بو” كممهدين أسبقين ورافدين كبيرين وعلى “مالارميه ورامبو” وفاليري” كأقطاب وممثلين حقيقيين لا يسع الدارس إغفال ذكرهم وإيلاؤهم كل عنايته وهو يؤرخ للحركة الرمزية ونتاجها الأدبي.

قد يعجبك ايضا