اليمن .. بين عقوق الانتماء ودعوى الوطنية
عبدالرحمن مراد
مقالة
وفق طبيعة الإنسان وجبلته وفطرته التي فطره الله عليها يشعر بآصره وجدانية مع المكان الذي يشهد بداية تفتق الوعي بالأشياء ويظل حنين الانتماء إلى ذلك المكان جزءا مهما من كونه النفسي والعاطفي مهما تقاذفته الأمواج وشط به المزار وتباعدت به الأسفار ومهما تقلب على ديباج النعمة واستبرق الحياة الناعمة وقد أفصح الشعراء والأدباء في كل الأزمنة عن ذلك الوجدان وتلك العاطفة ولعل شاعر المهجر ايليا ابو ماضي كان أبلغ كل اولئك والأكثر صدقا في التعبير عن ذلك الحنين في نصه (وطن النجوم).
ظل مفهوم الانتماء في حقب التاريخ المختلفة يتمدد او ينحسر في الدلالات إلى أن وصل إلى هذا الأفق الذي هو عليه في واقعنا المعاصر وهو أفق دلالي متراكم يبدأ من الأضيق ثم يأخذ في الاتساع الرأسي والأفقي فالفرد منا مثلا في إطار وحدته الإدارية ينتمي إلى قريته وإذا غادر الوحدة الإدارية (المديرية) إلى مكان آخر في إطار محافظته انتسب إلى وحدته الإدارية (المديرية) وإذا تجاوز المحافظة إلى محافظة أخرى انتسب وانتمى إلى المحافظة وهكذا دواليك فهو إذا ذهب إلى قارة أخرى قال أنا عربي من اليمن أو من شبه جزيرة العرب ومثل ذلك الارتباط الوجداني بالمكان ليس غريبا علينا كما اسلفنا فللعرب فيه حكايات وتفاصيل علوم ما زال بعضها له وجوده حتى على مستوى الموجودات من حوله فهو قد يغالي في شيء تثبت بالدلائل انتماءه إلى مكان كذا إذن موضوع الانتماء متشعب وأصيل في ثقافة العرب وهو أكثر تجذرا في التراكم الثقافي الوطني اليمني ولعل القارئ للمنتج الثقافي الشفاهي الشعبي يجد اشتغالا قويا في موضوع الهوية الوطنية وموضوع الانتماء الوطني شأننا في ذلك شأن كل شعوب الدنيا اذ ليس في الأمر بدعة بل البدعة في حالة الانسلاخ وفي حالة الفصل التي بدأت تبرز كظاهرة في المناخ الوطني في عمومه وفي المناخ السياسي في خصوصه وفي تقبل الوجدان العام لمثل تلك الظواهر و في غياب المثقف الفرد والحقيقي في تصحيح المفاهيم وتعديل المسارات العامة وفي النقد والتصويب.
يرى علماء الاجتماع أن الظاهرة الاجتماعية تنشأ نشأة تلقائية مستقلة عن إرادة الأفراد المكونين للمجتمع فهي ليست من صنع فرد او بضعة أفراد مجتمعين بل هي نتاج التجمع في ذاته وبفضل فاعلية وتفاعل وجدانات الأفراد واحتكاك رغباتهم وانصهار إراداتهم وتبادل أفكارهم واتصال آرائهم ووجهات نظرهم في ما يمارسونه من أوجه النشاط وفي ما يجابهونه من مشكلات وتنشأ الظاهرة نتيجة عجز المشروع السياسي أو الإرادة السياسية في تحديث الأنساق الاجتماعية المختلفة ومثل ذلك العجز يعمل على تفكيك البنى الثقافية والحضارية والاجتماعية والاشتغال على التفكيك بالضرورة يترك صراعا وجوديا مدمرا وأخطره ذاك الذي يمس الهوية الوطنية ويمس الانتماء فالتدمير يبدأ من دائرة الأفق الدلالي المتسع في حالة نكوص وانحدار وصولا إلى الدائرة الأضيق والوصول إلى الدائرة الدلالية الأضيق قد يحدث ردة فعل ذات قوة تشظ فالكلي يصير جزئيا وبالتالي يصبح الجزئي كليا ومن خلال التفاعل يتجزأ لأن تبرير الظاهرة في ظروف نشأتها سيكون هو ذاته في ظروف هيمنتها وانحسارها وفي حالة التشظي والتجزئة أيضا.
ولذلك ننكر على أولئك القائلين بانتفاء يمنية اليمن عن إطار جغرافي بعينه بدون سند تاريخي قاطع بل لمجرد وجود مشكلة أو قل مشكلات كانت سببا في نشوء ظاهرة اجتماعية أو سياسية ظلت تمتد رأسيا وأفقيا إلى أن تحولت إلى قضية أو تيار قد يكون مناهضا بطريقة غير واعية فكليته متحولة أو منسلخة من كلية أكبر ومثل ذلك سيكون هو ذات المسلك حين تطمح جزئيات في إطار الكلي إلى كليات.
تجزئة الهوية الوطنية اليمنية إلى هويات محلية خارج النسق التاريخي والحضاري والثقافي لن يكون في مصلحة أحد سواء أولئك الذين يقولون بالوصل الحضاري والتاريخي أو أولئك الذين يقولون بالفصل القضية هنا قضية شائكة وهي في غاية الخطورة ومبلغها الأقصى إنú لم يتداركها عقلاء هذا الوطن ومفكروه ومثقفوه وأدباؤه وثمة قاعدة توافق عليها العقل العربي في التشريع وهي قاعدة تقول (درء المفاسد مقدم على جلب المصالح) فإذا كانت مصلحة طرف ما في المعادلة الوطنية لا تتحقق إلا بمفسدة ذات أثر مدمر فدرء تلك المفسدة أولى من جلب المصلحة وعودة الأمور إلى نسقها خير من التمادي في الغي والنشوز.
كل شيء في هذا الوجود لا يمكنه الوصول إلى كماله والوصول إلى البعض خير إذا كان الكل يفوتك.
ثمة مشاريع جاءت اليمن من خارج نسقه الحضاري والثقافي لم تترك وراءها إلا وطنا مدمرا وممزقا وإنسانا مشوها لا يشعر بقيمته ومع