سؤال الهوية في شعر البردوني 3-3
علي احمد عبد قاسم

يعد سؤال الهوية في هذه المرحلة سؤالا عصريا ملحا جاء بفعل السيطرة واستحواذ الحضارة الحديثة التي تلتهم مقدرات الأمم وتحولها من أمم فاعلة مؤثرة إلى أمم تابعة مستسلمة ويأتي هذا السؤال بفعل الضعف والخفوت الحضاري للأمم والشعوب العربية والإسلامية وغيرها ـ ويأتي خوفا من موت الذاكرة الحضارية للأمة والتأثير الفاعل في غيرها خاصة وقد أمتلك الآخر وسائل حديثة ومتطورة محاولا طمس الهوية العربية ومكرسا لهويته وحضارته فضلا عن الاستغلال الاستعماري في الشعوب استغلالا وتبعية وتكريسا للضعف الصراع مع الأخر ليس ظاهرة طارئة لكنها تمتد من مرحلة الضعف التي دبت في جسد الأمة بالتفكك والضعف للحضارة العربية الإسلامية واتضح أكثر منذ قال المتنبي في وصف حال الأمة من خلال حكامها.
(أرانب لكنهم ملوك مفتحة عيونهم نيام) فهذه من الصرخات الأولى على ضعف الأمة وتراجعها وتجلت الصورة أكثر ـ من الوهلة الأولى لدخول الحملة الفرنسية مصر حيث حملت معها المراصد والمطابع لكنها داست المقدس بحوافر الخيل واتسعت الصورة إبان الاستعمار الأجنبي للوطن العربي والذي كان للأدب والفكر الدور الأكبر في الحفاظ على الهوية العربية والإسلامية ولكنه بلغ النضج حين أعلنت دولة إسرائيل عن أرض فلسطين فسجل (عمر أبو ريشة بقصيدته الرائعة التي مطلعها):
(أمتي هل لك بين الأمم منبر للسيف أو للقلم)
سافرت في سنة “الرامي” هربت على
عمي غداة قبرنا ” ناجي الأسدي ”
من بعد عامين من أخبار قتل أبي
خلق ” اللحية ” في جيش بلا عدد
أيام صاحوا: قوى ” الإدريسي “أحتشدت
وقابلوها بجيش غير محتشد
“والدودحية ” تهمي في مراتعنا
أغاني العار والأشواق والحسد
وإذا كانت الحكاية في النص الشعري تحيل إلى علامات دلالية في التواصل لشخصيات الحكاية في النص ” الإدريسي ” ” الدودحية “ويروي الخطاب ” المعاناة ” وتتمثل بالمرض ” أحمد الرامي ” وهو الطاعون الذي يصيب المواشي كالأبقار وقد قال عنه البردوني عن الحكاية الشعبية ” له أربع أرجل يمشي عليها كالإنسان وله عشر أياد أظافرها كالسكاكين ومحمرة اللون) فكان رمزا للرعب والمعاناة والدموية ونهاية للخصوبة والخير وخاصة لدى المزارعين وهذه إشارة وعلامة للمعاناة المدمرة للخصوبة والخير وإبراز للأحداث التي تدمر الاستقرار وتظهر التخلص للإنسان والأنا المتخلفة وهي دلالة على العلاقة للهوية بالموت والمعاناة أكثر من الحياة والاخضرار والخصوبة والقوة فكان ” الإدريسي” ترميز للباطش البعيد الذي يقهر القوة التاريخية مما يحيل الضعف للهوية ومثل “الدودحية” وهي رمز وعلامة للعشق والحب والجمال وهي دلالة ورمز للمعاناة النفسية الوجدانية في بلوغ الجمال والحب وتحقيق غاية النفس بالامتزاج بالجمال والحب الفاتن وهذا تشظ للهوية وجدانيا واجتماعيا والنص يبحث عن الذات وما هو مثال في هوية “خصبة” تتلاقح” بالجمال ” وهوية قوية لها القدرة عل الانتصار من الجولة الأولى بتحقق انتصار الأنا الشامل فتحقق تلك الغايات ومن ثم تقول الأنا لكل ما حولها ” أنت أنا” لأن النص يحكي هوية أنا ” هو” الأخر والمناقض “هربت ساعة قبرنا”.
ولذلك يقول وليد مشوح ” اعتقد أن كثرة الأسماء والأعلام في شعر البردوني لها بعد نفسي يلح عليه فهو يستحضر الصورة التراثية الجاهزة لشخص أو مكان أو حدث ويقدمها مسكنا للألم البحث عن المثال والحاجة إلى الهدوء والاستقرار في حضرة المتناسق العظيم”.
وهو يبحث عن التعدد في إطار هوية واحدة متجانسة تمثل اليمن كله بوصف الاحتجاب للهوية والأنا استمرارية المعاناة والضعف حتى يتأتى الإشراق والضوء والنورانية والكرامة وكأن النص حوار لسيرة الوطن مع المعاناة والصراعات والتشطي كما ذكرت سابقا.
والآن يا ابني¿ جواب لا حدود له
اليوم أدجي لكي يخضر وجه غدي
وهذه هي غاية الأدب والفن الحق والجمال والفكر بإعادة صياغة الحياة بهوية مستقرة ناهضة وكذلك يعد النص صورة عاكسة لغايات الكلمة كما يقول الدكتور عبد العزيز المقالح: “تفتح أمام الشاعر أبواب الالتزام نحو الجماعة بدلا من الأفراد ونحو الأمة بدلا من القبيلة ونحو الإنسان عموما”.
لأن الهوية الحضارية لأي أمة من الأمم هي “القدر الثابت والجوهري والمشترك من السمات والقسمات العامة التي تميز حضارة هذه الأمة عن غيرها من الحضارات والتي تجعل للشخصية القومية طابعا تتميز به عن الشخصيات الأخرى”.
فإن نص البردوني يناقش الاختلال والتحول الذي اعترى الثبات للهوية محاولا استعادة ذلك الثبات والطابع المميز للهوية العربية في التقدم والانتشار كي ينتفض الضعف وينتشر النهوض ويخبو التخلف ففي نص أبي تمام وعروبة اليوم يناقش التحول والثبات والتغير الذي بلغ حد اللامبالاة حيث يقول