أطياف ماركس وثورات الربيع العربي
هشام علي

ربما لم تظهر صور كارل ماركس في التظاهرات التي شهدتها العواصم العربية التي اجتاحتها ثورات الربيع العربي في حين كانت صور أخرى لزعماء وسياسيين عرب وعالميين تتصدر المشهد وكانت صور المناضل الماركسي العالمي جيفارا أكثر الصور ظهورا ولعل التباس لحيته جعلت الإسلاميين يظنونه أحد القادة الإسلاميين الثوريين في العالم وقد رأينا كيف أن فتاوى أو أوامر عليا قد صدرت بإزالة صوره عن التظاهرات في بلادنا بعد أن تبينت ماركسيته¿
لكن ماركس الغائب عن الصورة في المشهد السياسي الثوري العربي كان حاضرا في قلب هذه الثورات وكانت فلسفته الداعية إلى التغيير تمثل جوهر الدعوات إلى التغيير في أوساط كثير من الشباب العربي الذين استطاعوا أن يفصلوا فكر ماركس وفلسفته الثورية عن الدعوات الحزبية والأنظمة الشيوعية التي احتكرت فكر ماركس لأكثر من سبعة عقود وحاصرته في قوالب جاهزة ودول بيروقراطية ما لبثت أن انهارت وسقطت ليعلن فلاسفة الليبرالية والرأسمالية بعد ذلك إعلانهم الشهير نهاية التاريخ وموت الماركسية.
إن القوى بحضور فكر ماركس وفلسفته في قلب الثورات العربية ليس ضربا من التعصب الإيديولوجي الذي يبحث عن وجود جماعات اشتراكية أو ماركسية داخل الجماعات الثائرة المتعددة الاتجاهات أو أنها محاولة للتلوين بالأحمر حتى لا يكون الاتجاه الإسلامي هو السائد والمسيطر في ساحات الثورة.
وللتدليل على هذا الكلام أستعرض هذه الملاحظة التي وردت في التقرير العربي الثالث للتنمية الثقافية الذي صدر في العام 2010م عن مؤسسة الفكر العربي في بيروت وهي مؤسسة ثقافية ليبرالية ففي الفصل الخاص بالتواصل الثقافي العربي على شبكة الانترنت وبعد الإشارة إلى القصور العربي في هذا التواصل إلا أن التقرير يبرز هذه الظاهرة المهمة حيث يشير إلى أن الفكر الماركسي مطلوب أكثر من غيره وأن العرب يبحثون عن الفكر الماركسي قبل الفكر الليبرالي على هذه الشبكة وأن البحث في فروع الفكر المختلفة هو في حقيقته في الفكر الماركسي.
ويعلق كاتبو هذا التقرير على هذه النتيجة قائلين:
“وهذه نتيجة لافتة أن يكون جل الرغبة في التواصل رقميا مع الفكر من قبل جمهور الانترنت العربي منصبا على الفكر الماركسي الذي أفل نجمه وتخلى عنه حتى أصحابه من الروس والسوفييت سابقا ولا تفسير لهذا الرقم المدهش سوى أنه قد يتم بمعرفة أكاديميين وباحثين عرب أو أن لدينا شريحة ممن لا يزالون يعتنقونه وتتسم بكونها نشطة فكريا وفي التعامل مع الانترنت من ثم تسعى للتواصل معه رقميا”.
هذه الإشارة التي وردت في تقرير التنمية الثقافية العربية تؤكد ما ذكرناه سابقا عن حضور ماركس في ثورات الربيع العربي الحضور الفكري والفلسفي بطبيعة الحال وليس الحضور الحزبي أو العقائدي .. تتحدث إحصائيات التقرير عن أكثر من خمسة مائة ألف عملية بحث وتواصل مع الفكر الماركسي شهريا في مقابل 28 عملية بحث شهريا في فروع الفلسفة.
كيف تعامل التقرير مع هذه المفارقة الفكرية وكيف حاول تفسير هذا الرقم المدهش على حد تعبير كاتبي التقرير.
* لماذا العودة إلى ماركس رغم سقوط الشيوعية وانهيار انظمتها¿
– لم يحاول أصحاب التقرير التعمق في السؤال أو في الإجابة.
لقد سارعوا بإجابتين خاطفتين: الأولى باحثون اكاديميون والثانية شريحة من العقائديين الشيوعيين الذين مازالوا على عهدهم السباق.
احتمالان ضعيفان للإجابة في رأيي إذ متى كانت الجامعات العربية ساحة مفتوحة للفكر الماركسي¿ ولعلي أجزم أن رسالة دكتوراه واحدة عن ماركس والماركسية لم تناقش في أي جامعة عربية.
أما الشريحة الباقية من الشيوعيين العرب فهي تجتر هزائمها في منافي العالم ولا أظنها تبحث عن ماركس في الشبكة العنكبوتية بمقدار ما تبحث عن “جودو” الذي يأتي ولا يأتي!
الحاجة إلى ماركس أو الحاجة إلى فكر ماركس وقراءته ومعرفته قد تكون هي الواقع للاتجاه نحو ماركس في مواقع الشبكة العنكبوتية فهذا الفيلسوف الذي أسس فكره على قضية التغيير واعتبرها المهمة الرئيسية في فكره يقول ماركس في مقولة رئيسية من مقولاته: كان الفلاسفة يحاولون معرفة العالم ولكن المهم هو تغييره.
وفي مناخ الجمود الفكري والسياسي الذي ساد العالم العربي ووسم الثقافة العربية في العقدين الأخيرين رغم ما كان يحتاج العالم من تغيرات وما يظهر في الفكر والثقافة من تحولات شملت الفلسفة وعلوم الاجتماع والأدب والفنون.
وقد كان العالم العربي أحد المراكز الرئيسية أو الميادين العملية التي نزلت عليها آثار هذا التغيير ولا أقول اجتاحتها ونحن في عالمنا العربي لم نتغير ولم نتعرض لعوامل التغيير كل ما في الأمر أن بلادنا كانت ساحة مفتوحة لممارسة تجارب التغيير المختلفة دون أن نمتلك القدرة على المشاركة فيها أو الإفادة من نتائجها لذلك كانت ثورات التغيير في بلدا