شروط قيام الثورة بين معذبي الأرض والإنسان ذي البعد الواحد
د. أحمد حمود المخلافي

قيل عن (فانون) إنه أول من أعاد اكتشاف قوانين التاريخ في كتابة (معذبو الأرض).. وبالمقابل فإن (ماركوز) في كتابه (الإنسان ذي البعد الواحد) تعكس صورة إنسان البلدان الصناعية المتقدمة.
وما دمنا بصدد إعادة اكتشاف قوانين التاريخ وصياغتها فلنقل من الآن إن تاريخ العالم لم يعد واحدا كما قد يخيل لنا لأن العالم نفسه لم يعد واحدا.
إننا أمام عالمين متمايزين ومتباينين وربما متناحرين.. هذه الثنائية يمكن تصويرها في سؤالين الأول لـ (فانون) والثاني لـ (ماركوز) لأن لغتهما ليست واحدة وإنسانهما ليس واحدا والعالم الذي يتوجهان إليه ليس واحدا.
سؤالهما يعبران عن موقفين متناقضين لعالمين متناقضين هما:
موقف (فانون):
لماذا أصبحت الثورة ضرورية وممكنة بل وحتمية في عالم بات يعي أنه ليس أمامه ما يخسره غير أغلاله¿
وبالمقابل موقف (ماركوز):
لماذا باتت الثورة مستبعدة وغير محتملة بل ومستحيلة في عالم يخشى أن يفقد مع الثورة امتيازاته¿
فإلى ماذا يرميان¿ وكيف يمكن لنا تفسير ذلك¿
في معرض إجابته حاول (فانون) الإشارة إلى كيف يمكن أن تقوم الثورة في عالم لا وجود فيه للطبقة العاملة الصناعية.. لقد رفع الطبقة الفلاحية (المعذبون في الأرض) إلى مرتبة قيادة الثورة.. في بدايتها ثم تأتي الطبقة العاملة كشرط لاستمرار وتطور الثورة لأنها تنمو بفضل العناصر التي يمدها بها جيش الفلاحين.. لذلك فتحرر معذبي الأرض شرط أساسي لنمو الطبقة العاملة مستقبلا.
وفي معرض إجابته حاول “ماركوز” الإشارة إلى كيف يمكن أن الثورة لم تتحقق بل باتت شبه مستحيلة في عالم يمتلك القوة الكلاسيكية للثورة أي طبقة البروليتاريا الصناعية.
يؤكد “ماركوز” أن الثورة في خاتمة المطاف هي ممارسة.. والنظرية الثورية التي تعجز عن التحول إلى ممارسة تصبح عقبة في وجه الممارسة الثورية لأنها تخرج عن المخططات الكلاسيكية للنظرية.
يبدو مجتمع الحضارة الصناعية يلبي حاجات الناس.. ولكنها حاجات وهمية صنعها الإعلام.. وبالتالي فإن حرص المجتمع على تلبية هذه الحاجات المصطنعة تعد خير وسيلة لخلق الإنسان ذي البعد الواحد القابل بالمجتمع ذي البعد الواحد والمتكيف معه.. وما هذا الإنسان ذو البعد الواحد إلا ذاك الذي استغنى عن الحرية بوهم الحرية.. وإذا كان هذا الإنسان الذي يتوهم بأنه حر لمجرد أنه يستطيع أن يختار بين تشكيلة كبيرة من المنتجات والخدمات التي يكفلها له المجتمع لتلبية حاجاته فما أشبهه بالعبد الذي يتوهم أنه حر لمجرد أنه منحت له حرية اختيار سادته.
وهذا المجتمع المتقدم صناعيا قد زيف الفكر أيضا وحقر الأيديولوجيا باسم العقلانية التكنولوجية.. إنه عالم استبدادي يملك القدرة على وأد أي محاولة لمعارضته ونفيه والقدرة كذلك على تمييع وتذويب ودمج القوى الاجتماعية التي يمكن أن تعارضه بل والقدرة على استنفار وتعبئة جميع طاقات الإنسان الجسدية والروحية وجميع القوى الاجتماعية للذود عنه وحمايته..وهنا بالتأكيد يكمن دور السياسة.
فهذه المجتمعات تسير بصورة حثيثة نحو نظام الحزبين الاثنين اللذين أصبحا ممثلي لقطبي التعارض في المجتمع.. ولكن هذا التعارض هو مجرد وهم يقصد منه امتصاص المعارضة الحقيقية.. والدليل على ذلك صعوبة التمييز بين برنامجي الحزبين على صعيد السياسة الداخلية والخارجية معا.
والهدف الحقيقي من جمع المعارضات هو قطع الطريق على القوى الاجتماعية التي يمكن أن تكون عامل التغيير الحقيقي.. واتحاد المعارضات يفسر لنا عجز الأحزاب الثورية في المجتمعات الصناعية المتقدمة وانزلاقها المستمر نحو الانتهازية الإصلاحية والاندماج بالنظام القائم.. وفي سبيل ذلك كانت تذكر مواطنيها صباح مساء بخطر الشيوعية أو الغزو الخارجي المزعوم واليوم تحذره من مخاطر الإرهاب حتى لو اضطر الأمر أن تصنع إرهابا وهميا.. فتسليط سيف هذا الخطر كفيل بقمع ودمج القوى الاجتماعية التي لم يستطع الجهاز أن يقمعها ويدمجها.
أضف إلى ذلك أن الآله نفسها تلعب دورا رئيسيا في المجتمع التكنولوجي فمكننة العمل وتأليله أبطلا مفعول الرفض والنفي الذي كانت تمثله الطبقة العاملة “الكادحة” ودفعا بها إلى الاندماج بالنظام القائم فصار مطلبها الأول هو المساهمة في تسيير المشاريع وليس تغيير النظام الذي يوفر لها نسبيا رغد العيش ورفاهة.
لذلك فإن الشرط الضروري لتجاوز الواقع التكنولوجي الراهن هو تحقيق هذا الواقع واكتمال جبروته وإن العقلانية الجديدة.. أي عقلانية الإنسان المتحرر من شتى أشكال السيطرة لن تبرز إلى
