صـــــــــــــــورة لليـمن عـــــبر التــــــــــاريـخ
جمال حسن

مفهوم الدولة الوطنية يعود إلى عصر الحداثة وبالتحديد القرن التاسع عشر بعد انبعاث القوميات. وإن كان لليمن هاجس وطني قديم إلا أنه حالة من تسيد قبيلة وإخضاعها لقبائل أخرى لم تزل معظمها تحتفظ بمسمياتها منذ مئات القرون. يعتقد البعض أن الشعوب تصنعها الاتفاقات لكنها في الواقع خارطة من النزاعات والاختلافات. جمعت اليمنيين ثقافة واحدة في القديم عبر اللغة والكتابة المسندية لكن كذلك جمعتها صراعات وقتالات عنيفة. فنقش النصر للملك السبئي كرب إل وتر يعتبر أول وثيقة وطنية وهذا لا يقلل من الدويلات الأخرى. لكن بما أنه الملك الأول الذي استطاع توحيد اليمن.
في عصر الاضطهاد الديني مارس الملك الشمس لويس الرابع عشر حالة تنكيل رهيبة بالبروستانت. يخبرنا التاريخ عن أرقام هائلة من القتلى. لم يكن الملك الفرنسي مدفوعا برغبة دينية بل هاجس الحفاظ على وحدة وطنه. يعرف أن الانشقاق المذهبي خطير. مع ذلك تقدم لنا الثقافة الحديثة التي أنتجتها أوروبا قيما عالية في التعايش. إذ إن صعود المفهوم الوطني يمزج الاختلافات المذهبية. لكن في العصور القديمة لم تكن تلك القيم حاضرة. فما أن يواجه مذهب للتنكيل فيسمح بالدفاع عن نفسه حتى باستقدام محتل. عندما أراد ذو نواس تطهير اليمن من المسيحية لجأ أولئك لملك بيزنطة.
عمليا أراد ذو نواس استحضار دين وطني مع صعود القيم التوحيدية وانتشارها داخل المجتمع اليمني. مع ذلك يبقى هناك سؤال ما إن كان يوسف أسار آخر ملك حميري هو رجل دين يهودي. في النقوش الحميرية إشارات تسبق صعوده للحكم عن وجود ثورات داخل عاصمة الدولة. لا نعرف كيف يستولي على الحكم لكن تشير نقوش إلى أنه حارب الأحباش وطردهم من ظفار. ثم جهز حملته إلى نجران ومناطق البحر الأحمر أراد إبادة المسيحيين ربما لأنه رأى فيهم حلفاء للأحباش والرومان. لكن ذلك الحل أسفر عن انشقاق هائل. ثم هناك ربما نشوة النصر التي جعلت الملك يرتكب عدة أخطاء تجعله يخسر حلفاء رئيسيين في حربه. ثم تحالفوا مع الغزاة الأحباش.
أراد الملوك الحميريون ربما بعضهم دينا وطنيا يميز سيادتهم فكانت اليهودية. ربما في ذلك العصر لا تفسر الأمور بتلك الحدية. مع ذلك هناك حالة شبيهة صاغها حكام الخزر في منطقة بحر قزوين عندما اختاروا اليهودية كدين لهم. مع ذلك اليمن كوطن هي رهان مستمر للانشقاق. فالتشرذم القبلي وعدم وجود ذهنية وطنية عالية أو حتى التزام أيديولوجي موحد جعل اختراقها سهل من الداخل. أراد يوسف إسار أن يجبر الرعاة على دينه. لكن اليمن نتيجة التعقيدات التضاريسية ووجود حواجز جبلية واسعة وهيمنة رؤساء القبائل. تجعل الامتياز الوطني مجزأ يصعب على الملك التفرد به. فإن انهارت طاقته القتالية تبدأ عملية واسعة من الانشقاقات تظهر.
في التاريخ القديم استعصت اليمن على الغزاة الرومان حملتان لم تنجحا. ليس لأنهما واجهتا هزيمة عسكرية. فوثيقة تاريخية تسرد حكاية الحملة لا تتحدث عن هزائم بل على العكس انتصروا في مواجهات غير معروفة. لكن لم يبلغ هذا الجيش مدينة مأرب العاصمة السبئية المقدسة. ورحلوا دون ذكر أسباب ذلك هل عانوا من وباء فتك بمعظم الجيش ألم يتحملوا الطبيعة الجبلية والبيئة المحلية.
لم يتحدث اليمنيون عن تلك الحملة. هل واجه الجيش مقاتلين أرهقوهم وألحقوا بهم هزائم متتالية أي نوع من المقاومة المجزأة والمصائد. لا نعرف عن ذلك. مع ذلك لم يكن هناك انشقاق هائل يسمح بغزو اليمن. لذا استوعب الروم الدرس وبدأ الاختراق إما عبر الدين والتبشير المسيحي. ثم عبر الحلفاء الأحباش الذين بدأوا منذ القرن الثالث الميلادي يغزون الساحل اليمني.
اليمني غالبا يخسر من الداخل يخذله الانشقاق. وعندما كان هناك انشقاق ديني فدوافع السقوط كانت أعمق. فعندما كانت اليمن مجموعة دويلات كان غزوها أصعب. على الأقل كانت ثقافة موحدة من الآلهات المتشابهة والكتابة الواحدة وعادات قبلية متآلفة كانت أقل خطورة من الانشقاق الديني. فالأخير شقوقه أكثر عمقا. وما عجز عنه الرومان سهل للأحباش. لكن تم غزو اليمن عبر مراحل. بدءا من النشاط التبشيري والعسكري على الساحل والمدن القريبة منه. ثم انهارت المصالح وسهل اصطياد هذا الجزء المهم بالنسبة لإمبراطورية أرادت السيطرة على أهم خطوط الملاحة في ذلك العصر.
لكن اليمني لو لم تكن لديه هذه الطبائع المتخاذلة ربما تحول غازيا. أو وطن يصعب اختراقه. مع ذلك لا يمكن تبسيط الأمور كذلك. فاليمن أرهقته حروبه الداخلية أكثر من حروبه مع الخارج. والداخل هو الذي يمنح الخارج القدرة على السيطرة. الانشقاقات أيضا تعود لنزوع مرعب مارسه استئثار النخب بالمصالح. فذو نواس مارس ربما أكثر الحروب دموية. لا نعرف بالتحديد كيف تصرف مع قواده لكنه كملك يعاني من خطر الغزو ربما أرهقه تطلعات سادة القبائل بما أنهم