تونس .. بعد ثورة الياسمين

هشام علي

عند الوصول إلى مطار “قرطاج” في تونس أخذت أتأمل المدينة بحثا عن إجابات للأسئلة الكثيرة التي جالت في رأسي خلال رحلة الطيران المرهقة والطويلة من صنعاء إلى تونس عبر مدينتي عدن وإسطنبول كانت الساعات الطويلة من الطيران والوقوف تشحذ الذهن بالأسئلة والأفكار والذكريات التي تمعن في القدم.
فمنذ قرابة ثلاثين عاما كانت رحلتي الأولى إلى تونس للمشاركة في ندوة “ابن رشيق” للنقد الأدبي في مدينة القيروان.
ولهذه التجربة أثر كبير في مسرى الفكري والأدبي.
إذ إنها دفعت في اتجاه الاختيار والحسم لعالم الأدب والنقد بعد أن كانت نظريات الفيزياء وتطبيقاتها تشدني بحكم الدراسة والعمل في اتجاه آخر.
وكان للأخ والصديق عمر الجاوي دور في هذا الانحياز للأدب والنقد.
فقد دعاني إلى مقر اتحاد الأدباء ليعرض علي المشاركة في هذه الندوة النقدية وقال إنه قد أرسل اسمي إلى اتحاد الكتاب في تونس وأن علي إعداد دراسة في أحد محاور الندوة.
لا داعي للحديث عن مدى المسئولية والثقة التي وضعها الأستاذ عمر الجاوي علي كاهلي فهذا الاختيار لكاتب شاب من بين أسماء كثيرة وكبيرة كان يتضمن دلالات خاصة حاول الجاوي البوح بها دون النطق بها وكانت بداية علاقة فكرية استمرت حتى وفاته بل إلى بعد وفاته. حيث لا يزال عمر الجاوي وميراثه الفكري والسياسي دليل عمل ومنهج استرشاد.
في ملتقى ابن رشيق النقدي تعرفت على كثير من الأدباء التونسيين الشباب الذين كانوا يحملون مشاريع كبيرة للمستقبل وبالفعل تمكن عدد منهم من تحقيق تلك الأحلام ولكن مع الأسف خارج تونس حيث تكونت بذور المشاريع وتشكلت الأمنيات والأحلام.
لقد تابعت مسار كثير من أولئك الأدباء الذين عرفتهم في ذلك الملتقى.
استطاع عدد منهم أن يحقق نجاحا في مناحي الإبداع المتعددة.
وكانت تلك ميزة ذلك الملتقى النقدي فالمشاركون ليسوا نقادا ودارسين فحسب ومنهم كتاب وأدباء في مجالات الأدب والفكر جاءوا إلى مدينة القيروان الشهيرة بمعالمها الإسلامية وجامعها الكبير وتبين شواهد المدينة ومعالمها أن لليمنيين أثرا كبيرا في تشييد ذلك الجامع وغيره من المعالم.
ويمكن القول إن قوسا من الهجرات المتواصلة امتد بين اليمن وتونس ليس مع جيوش الفتح الإسلامي وحسب ولكنها سبقها بقرون عديدة ترجع إلى رحلات بني هلال الشهيرة التي خرجت من اليمن واتجهت شمالا بعد أن أجدبت الأرض وقل الزرع فخرجت هذه القبائل واتجهت نحو بلاد المغرب العربي بحثا عن الماء والزرع.
ونجد كثيرا من الآثار والمواقع التي تحمل أسماء يمنية فمدينة “سوسة” الشهيرة كانت تحمل اسم “حضرموت” وهناك مواقع بني تميم.
كذلك نلاحظ كثيرا من الكلمات العامية تتفق في معانيها مع الكلمات العامية في اليمن.
كان ملتقى ابن رشيق يعبر بالفعل عن اسمه فقد كان مناسبة للقاء عدد من الأدباء والمثقفين العرب الذين جاءوا من خارج تونس وكان هناك الأدباء والمثقفون الفلسطينيون الذين يعيشون في تونس وذلك في أعقاب حرب بيروت 1982م حتى خرجت القيادة الفلسطينية لمنظمة التحرير إلى تونس وخرج معها العديد من أبناء الشعب الفلسطيني إلى تونس وإلى اليمن أيضا بشطريه.
التقيت بعدد من الأدباء الفلسطينيين الذين عاش بعضهم في اليمن وكانوا يحملون ذكريات طيبة عن اليمن وأهلها الكاتب والروائي يحيى يخلف صاحب رواية “نجران تحت الصفر” كان من أوائل الذين التقيتهم في تونس وقد سأل كثيرا عن اليمن وأدبائها وروى كثيرا من ذكرياته في مرحلة الشباب حين عمل مدرسا.
الشاعر أحمد دحبور كان يحمل ذكريات أكثر قربا فهو كان مع المجموعة التي خرجت من بيروت إلى عدن تم رحل بعدها إلى تونس.
الشاعر دحبور تحدث كثيرا عن سيرة بني هلال وقد قدم بحثا عن هذه السيرة الهلالية ينطلق من “سيناء” وتراثها الفلكلوري لكنه أضاف أثناء النقاش أن هذه السيرة تظل ناقصة لأن أصل الهجرات الهلالية انطلقت من اليمن وأن تراث هائلا من الحكايات والأشعار يحتاج إلى البحث والجمع.
وبعد عودتنا من القيروان نظم لي اتحاد الكتاب ندوة في مقر الاتحاد وهناك تعرفت على الكثير من الأدباء والمثقفين وعرفت كثيرا من أفكارهم واتجاهاتهم كما أحسست بأن شيئا جاثما على صدورهم يكمم الأفواه ويحجب الأفكار فما نراه في الظاهر في مناخ أوروبي حرص الحبيب بورقيبة “الرئيس الأسبق لتونس على إتباعه ونهجه لم يأخذ من ثقافة الغرب سوى القشور بينما كانت الحرية وأنوار العقل غائبة أو محرمة شعرت أن المثقفين كانوا يقولون همسا حديثا آخر مختلفا أكثر عمقا وأشد رصانة. وهذه الحرية الغائبة هي سبب الهجرة بكل تأكيد وقد ذكرت سابقا أن كثيرا من الذين عرفتهم في هذه

قد يعجبك ايضا