هدم أوثان الفكر والعقلانية الجديدة..!!

سامي عــــطا

 - 

"لا تقرأ لتعارض وتفند ولا لتؤمن وتسلم ولا لتجد ما تتحدث عنه بل لتزن وتفكر"(فرنسيس بيكون)
في أحد حوارته, انتقد المفكر الراحل نصر حامد أبو زيد فكرة تمترس الخطاب الديني, ولعبه على أو

“لا تقرأ لتعارض وتفند ولا لتؤمن وتسلم ولا لتجد ما تتحدث عنه بل لتزن وتفكر”(فرنسيس بيكون)
في أحد حوارته, انتقد المفكر الراحل نصر حامد أبو زيد فكرة تمترس الخطاب الديني, ولعبه على أوتار الخصوصية, وذلك دفاعا على بقائه بعيدا عن رياح التغيير, حيث قال أبو زيد : (سيقول لنا فلاسفة الفكر الإسلامي إن أوروبا احتاجت الإصلاح الديني بسبب “الكنيسة” المرض الذي لا وجود له في حضارتنا. وهنا بالضبط يكمن الخطأ فلدينا كنائس لا كنيسة واحدة إذا كان معنى الكنيسة وجود سلطة أو سلطات تحتكر المعنى الديني وتكفر كل من يخالف هذا المعنى. لدينا وفرة وافرة من هذه السلطات التي تحتكر إلى جانب المعنى الديني المعنى الاجتماعي والمعنى الثقافي والمعنى السياسي بالإضافة إلى المعاني الأخلاقية والروحية وكلها معان يتم احتواؤها داخل المعنى الديني الذي تنتجه هذه السلطات.
مشكلة الخطاب الديني أنه يلعب على أوتار “الخصوصية” وكأننا بدع بين البشر ما أصلح العالم لا يصلح لنا دون أن يدقق المخدوعون بمفهوم “الخصوصية”- المطروح في الخطاب الديني – ليدركوا أنها خصوصية فقيرة جدا ومغلقة لأنها تختصر هوية الإنسان في بعد واحد من الأبعاد العديدة وهو بعد “الدين”.)
وهذه المشكلة تستمد حضورها من الاختلاف المنطقي وعقلانية التفكير السائد في الثقافة العربية والإسلامية. وكما هو معروف لكل عقلانية منطقها الخاص, ولقد حكمت عقلانية المنطق الأرسطي ذي القيمتين ( منطق إما …أو) تفكير الإنسان منذ بدأ منطق التفكير البشري حتى منتصف القرن التاسع عشر أو نحوه, وهذا لا يعني انتهاء حاجتنا لهذا المنطق, لا بل تعني نهاية تفرده بطرائق التفكير, أي صار ينظر إلى هذا المنطق بوصفه مرحلة ابتداء للفكر البشري الجمعي, كما أنه لحظة ابتداء في نمو منطق التفكير الإنساني على المستوى الفردي أيضا, ولا يمكن الاستغناء عنه.
لقد شكل ظهور كتاب الفيلسوف الانجليزي فرنسيس بيكون (1561ـ1626م) “الارجانون الجديد “(1620م) تحولا كبيرا في طرائق التفكير, فلقد وجه فيه نقدا لاذعا للمنطق الارسطي الاستنباطي” ارجانون أرسطو” داعيا إلى استبداله بمنطق الاستقراء التجريبي, كما شكل كتاب الفيلسوف الفرنسي رينيهديكارت (1596ـ 1650م) “مقال عن المنهج ” (1636م) تحولا كبيرا في النظر إلى العقل وطرائق عمله , وكان محقا في حكمه ” العقل أعدل الأشياء بين الناس” ( هذه العبارة أستهل بها ديكارت كتابة مقال عن المنهج). ولئن كان المنطق آليات اشتغال العقل الإنساني, خلص إلى نتيجة أن اختلاف عقول البشر بعضهم عن البعض الآخر يرجع إلى خضوع بعضها للمراس والتدريب , أي أن ديكارت عزا الاختلافات بين البشر إلى تمايز عقول بعضهم عن البعض الآخر بالفاعلية الناتجة عن التدريب والتمرين المستمرين.
وشهد التفكير البشري تحولا في بنية التفكير ومنطقه, إذ شكل الانتقال من منطق الأنواع أو منطق الكليات ” المنطق الأرسطي” إلى منطق المجموعات ” المنطق المعاصر منطق بول وفريجيه وبيرس وديوي وراسل وهوايتهد ) فتحا جديدا ساعد على توسيع آفاق العقل وتغيرت بموجبه بنيته وأدواته.
لقد دشن بيكون من خلال نقده , هدم أوثان الفكر,انتهت على إثره قداسة الفكر, وأضحى الفكر قابلا للنقد والتفنيد, بينما قوض ديكارت فكرة تمايز البشر على أساس تمايز عقولهم على أسس سلالية أو عرقية.ولم يكن بالإمكان للعقلانية الجديدة , العقلانية الراهنة أن تظهر إلا نتيجة نقد مفكري الحضارة الحديثة للعقل وطرائق التفكير السائدة, هذا النقد الذي أحدث قطيعة مع طرائق التفكير القديمة , قبل أن يحدث قطيعة مع تراثهم الفكري, الأمر الذي نزع صفة القداسة عن ذلك التراث, ولقد أدركوا أن التغير يبدأ عبر تغير طرائق تفكيرهم. وما أحوجنا لمثل هذه القطيعة مع طرائق التفكير.
سامي عــــطا
استاذ فلسفة العلوم ومناهج البحث
قسم الفلسفة كلية الآداب جامعة عدن

قد يعجبك ايضا