ديــمـــة

ريم مجاهد

• سألت أمي : كيف هو الجو في القرية ¿ أجابتني ديمة ! وفي الظهيرة سألني أخي مجاهد عن مقدار الأرز الذي يجب عليه طبخه لأن الجميع في الخارج ولماذا الجميع في الخارج إلى الواحدة والنصف يا مجاهد ¿ لأنها ديمة منذ الصباح حتى العاشرة لم يستطع معها أحد الخروج للعمل !
لدارنا حمام إضافي بني بحيث ألصق في الجدار الجنوبي وصار أشبه بالبثرة في الوجه ولا يستخدم هذا الحمام إلا نادرا وحين تهطل الأمطار يتدفق الماء من الدرجات العريضة في الأعلى ويعبر إلى الحمام عبر ميزاب صغير مرتفع عن أرضية الحمام هذا الميزاب يعد ريختر المطر لدينا : في أي ساعة يهطل المطر يعلن هو عن وصوله وعن شدته وفي الشتاء ننام هانئين دافئين على صوت المطر النازل بهدوء من السماء إلى السطح الإسمنتي ثم من الميزاب إلى أفئدتنا .
ما الذي يجعل شتاء القرية فصلا فقط يسكنه الحنين والغموض ¿ الديمة والضباب !
في الشتاء يصحو القرويون متأخرين قليلا لا تغامر الديكة بإيقاظهم باكرا , ريم لأنها ذاتها لا تريد الخروج من منازلها الصغيرة الدافئة , والنساء عادة ما يشعلن النيران في السماد بجانب أبقارهن المحبوبات وتلتصق الأغنام ببعضهن في حالة من الاجترار المستمر لعلفهن والأمهات يزودن مواقدهن بالحطب حتى تبقى مشتعلة طوال النهار وحين يأتي الليل تكون هناك كميات كبيرة من الجمر تساهم في إيجاد ماء دافئ باستمرار لا ينفد .
المزيد من الشاي المزيد من البخور والمزيد من الملابس هذا هو الشتاء في المنزل وفي الصباح كنا نصعد إلى سطح الدار كي ننفث البخار من أفواهنا وكم كان مثيرا أن يغطينا الضباب بالكامل فلا نشاهد من يقف على بعد مترين منا وتنتشر في الشتاء الخصومات بين الأمهات والأسباب دائما ذاتها : لأن الضباب يغطي البقاع بكثافة شديدة و يصبح من السهل على الرعيان أن يمرحوا فيتركون مواشيهم تسرح في الجبال يأكلن من حيث أردن لكنهم كثيرا ما يضبطون بالجرم المشهود وهنا تبدأ الخصومات أما نحن الطلاب فكانت أسعد أيامنا : تنتشر قصص الحب والرعب في الشتاء الضباب هو راع لكل الحكايات .
من منا لم ينم على صوت الديمة الهادئة ويتخيل قصص الرعب في الخارج ¿ ذاك الذي لم يفعل قد فقد فصلا لا يعوض من الحياة في الغرفة التي لا تملك نافذة والتي فقط لديها فتحات صغيرة تتجاوز الأربع فتحات كنت أنام مغلقة كل تلك الفتحات بكومات من الملابس الممزقة أصنع منها غطاءا ملائما لحجمها فلا يجرؤ البرد على اختراقها وبالنسبة لي كان الشتاء المزيد من الدفء المزيد من الأحلام والمزيد من الأغاني امتلكت جهاز مذياع ورثته عن جدي لدي برامجي المختلفة ولأني في القرية ولأني طالبة غير مجدة كنت أنام باكرا وما أن يأتي منتصف الليل أكون أنا قد اكتفيت من النوم والأحلام أصحو سعيدة بلا منغصات أسترق السمع للميزاب : مطر¿ نعم مطر ! وتغمرني سعادة لم تعد تتكرر وأشعر بالدفء الكامل وأشغل المذياع على سهرة إذاعة صنعاء والغرفة ذات الكراكيب الكثيرة مشعة بضوء باهت جدا للفانوس الذي تضعه أمي في البسطة التي تتوسط الغرف .ديمة أي لحن الشتاء بل لحن الفصول تهيئ الأرض للربيع المزهر الشتاء الجاف هو شتاء بلا مشاعر شتاء قاس وغير أليف بارد يثقل القلوب بأحاسيس سوداوية لكن الشتاء بديمته الهادئة هو فرحة الأرض والبشر والسماء الصيف مرعب برعوده المتفجرة ورياحه العاتية بوسع أحدنا أن يغط في النوم فيدفأ لكنه قط لن يكون ذاك الدفء الذي ينشره فيه صوت المطر المتساقط على مهل بدون غضب ولا تسرع ولا إهمال وبوسع المدن أن تلهينا وأن تغوينا وأن تجعلنا نبتعد كثيرا عن رائحة السماد والماعز لكنها لا تستطيع قط تعويض مرأى الجبال ناكسة رأسها للضباب الطاهر ولن تمنحنا فرصة العلو الشاهق حين نشاهده ينسحب عبر الوديان الضيقة في تبخر عجيب .

قد يعجبك ايضا