نزيف البرامج الحوارية في إعلامنا
فتحي الشرماني
إذا كان المثل الشعبي القائل: (اللي ما معه عمل يدوöر له جمل) يطابق حالا من أحوالنا في واقع اليوم فإن الإعلام المرئي في رأيي خير من يتجسد فيه معنى هذا المثل, ذلك أن البرامج الحوارية السياسية في بعض قنواتنا الفضائية الأهلية أصبحت هي (الجمل) الذي تنشغل به هذه القنوات لمجرد استهلاك الوقت, في ظل عجزها عن تقديم المادة الإعلامية المفيدة بما فيها من جهد وصبر واحترام لعقلية المشاهد, وحقه في أن لا يذهب وقته هدرا أمام (دردشة) بين كائنات تستمرئ محاولة التلاعب بعقليته, وتوهم نفسها بأنها تنجح في التأثير فيه.
نعم, من السهل أن تدير حوارا أو تشارك فيه لمناقشة قضية معينة محددة في نقاط أو جزئيات يجري الانتقال من واحدة إلى أخرى, لكن إلى متى سيظل المشاهد ملزما برؤية وجوه إذاعية أو مستضافة كل ما تطيقه هو أن ترسل كمية من الانطباعات المسكونة بالحقد والكراهية وتسويق الكذب وإلصاق كل شرور الأرض بالآخر الخصم¿!.
للأسف نحن نعيش أزمة (إنسان) بكل ما تعنيه الكلمة من معنى .. يكاد ينعدم ذلك الإنسان المتنور الذي يعشق الحقيقة ويرفض التخلي عنها .. إنسان لا يسلم نفسه بالكامل لمجموعة من العواطف أو العقد التي تهيمن على مواقف بعض المرضى المصابين بطاعون النرجسية أو السادية أو الشيزوفرينيا.
نكاد نفتقد الإنسان الذي يقول الحق ولو على نفسه .. إنسان يحبب حبيبه هونا ما, ويبغض عدوه هونا ما, كما تقول الحكمة.. إنسان معتدل في طرحه, موضوعي في آرائه, متوازن حتى في تحامله على الخصم, فلا يمنعه حبه لشخص ما, من أن يقول: إنه لم يكن موفقا في قضية كذا أو كذا, ولا يمنعه بغضه لفلان من أن يقول: إن له من الإيجابيات كذا أو كذا, معززا كل ذلك بالحقائق والبراهين لا بالمغالطات التي تحاول إقناع المشاهدين بأن الرماد أغلى من الذهب والألماس.
إن بعض قنواتنا حين تكون مغرمة بإضفاء الألقاب والأوصاف على بعض الوجوه التي ليس لها نصيب من هذه الألقاب فإن هذه القنوات في حقيقة الأمر تفتقر لوجود المحلل السياسي الذي يعبر عن مواقفه بناء على معطيات توصله إلى أحكام وإن أخطأ فحسبه أنه امتلك المهارة والشعور بمسؤولية الكلمة في سبيل الوصول إلى الحقيقة التي ينبغي أن يحظى بها المشاهد.
ما أروع ذلك المحاور الحزبي الذي يمتلك الشجاعة للإقرار بخطأ ما ارتكبه التيار أو الفصيل الذي ينتمي إليه .. وما أروع ذلك الإعلامي المحايد الذي يحاول فرض رأي خاطئ, ولكنه لا يلبث إذا ما تبين له الصواب أن يعود إليه أو يحث غيره عليه, وإن لم يستطع يصمت (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت).
على العموم, ينبغي أن لا يستمر أداء بعض القنوات على هذه الحال من عدم المهنية, لاسيما حين تكون حواراتها أكثر ميلا إلى إثارة الفتنة ونقض عرى الوفاق السياسي الذي تعيشه بلادنا, ولنتذكر أن التطرف في المواقف السياسية مصيبة لا تقل خطورة عن التطرف في الدين, فالمتطرف الديني إنسان ضل طريق الإسلام فاندفع إلى سفك الدم الحرام, ومثله المتطرف السياسي, إنسان ضل طريق الوطن فاندفع إلى تلغيم الحياة السياسية بالخطاب المأزوم الذي يظهر الباطل في صورة الحق, ويظهر الحق في صورة الباطل, بما يزيد من وتيرة القلق ويعرض السلم الاجتماعي للخطر.. فهل أدركنا هذه الخطورة¿!