العولمة وأبعادها
قدم الباحث الهندي أرجون أبادوراي سلسلة من دراسات ومؤلفات خص فيها العولمة من حيث أبعادها الاجتماعية والثقافية. وهو يذهب في الاتجاه نفسه بعمله الأخير الذي يحمل عنوان: «المستقبل كواقع ثقافي» يجمع فيه دراسات عدة حول الشروط العامة للعولمة.
الموضوع الأساسي للكتاب الجديد: «العولمة الثقافية» التي شكلت مركز الاهتمام الرئيسي للمؤلف منذ عقود من الزمن. إذ إنه أصبح بمثابة مرجع في الميدان. والمساهمات التي يتضمنها الكتاب مكتوبة خلال السنوات العشر الأخيرة تحت عنوان عريض يهدف إلى أن يكون مساهمة في دراسة العولمة.
يشرح المؤلف أن العولمة الراهنة «ليست نتاجا جديدا» للإنسانية ولكن لها جذورها ونماذجها القديمة. ويحاول أن يلقي الضوء على ما يعتبره شجرة نسب الحقبة الحالية من هذه العولمة عبر دراسة مجموعة من الظواهر التي كانت قد قدمت لها وعلى رأسها العنف وسيادة مفهوم السلعة والنزعات القومية والأبعاد المادية في حياة المجتمعات الإنسانية.
وإذا كان مؤلف هذا الكتاب يولي اهتمامه للعولمة من حيث أبعادها الثقافية فإنه يضع الهند بلاده في صميم هذا العمل. ويركز داخل الهند نفسها على الرؤية السائدة للعولمة لدى سكان الأحياء الفقيرة على أطراف مدينة بومباي.
ويؤكد المؤلف في التحليلات المقدمة أن هؤلاء السكان يناضلون من أجل حصولهم على العدالة. وعلى الاعتراف بوجودهم وبواقع التفاوت الاجتماعي الذين هم في طليعة ضحاياه. لكن رغم هذا كله ينظر إلى المستقبل بـ«شيء من الأمل».
ويتعرض المؤلف في الكتاب للأسئلة الأساسية الخاصة للعلاقة بين الاقتصاد والثقافة وأشكال تبدي هذه العلاقة في مجال العلوم الاجتماعية. هذا إلى جانب توصيف ملامح المنظومات الأخلاقية التي ترتسم في الأفق في ظل حالة من القلق والخوف من المستقبل. ويشدد على أن العولمة لا تعني أبدا إيجاد نموذج «نمط» ثقافي متجانس وبالتالي لا يمكن للثقافة أن تغدو سلعة: «شيئا» يخضع لقوانين السوق.
ويرى المؤلف أن هناك «آليات لإعادة الاختراع» بوساطة الثقافة. والمثال الذي يدرسه يتمثل في لعبة الكريكيت الهندية التي أعادت اختراع النسخة الأصلية «الإنجليزية» من تلك اللعبة. ففي البداية كانت الكريكيت تمثل قيما تقليدية لإنجلترا الاستعمارية. ذلك باعتبارها «رياضة رجالية» تعتمد على السيطرة على النفس وعلى الاستقامة.
وفي الهند جرت عملية تكييف وتغيير لمفهوم اللعبة. إذ استخدمت في البداية من أجل نقل القيم الإنجليزية إلى الهند الاستعمارية بهدف «إخماد النزاعات» بين مختلف المجموعات البشرية المعنية. واعتبارا من سنوات الثلاثينات في القرن الماضي أصبحت الكريكيت رياضة هندية أصيلة بامتياز بالتوازي مع صعود النزعة القومية. ولا تزال تحظى حتى اليوم بشعبية كبيرة في الهند ولا تزال «مشربة بالنزعة القومية» خاصة أثناء المباريات مع باكستان.
وفي هذا المعنى تبين عملية «صبغ الكريكيت بالصبغة الهندية» نوعا من الآلية التي يمكن تطبيقها على مختلف القيم التي تريد العولمة نشرها في العالم. لتصبح قيما «ذات نكهة محلية» في تعبير عن واقع ثقافي ما يعني أن المستقبل نفسه سيكون بمثابة واقع ثقافي كما يشير عنوان الكتاب.
ويرى المؤلف أنه ينبغي للعولمة أن تكون تعبيرا عن «ممارسة ذات طبيعة أخلاقية». ويدعو في مثل هذا السياق إلى أنه عليها أن تسهم في «بعث الأمل بين فقراء العالم». ويرى أن بعث مثل هذا الأمل يستدعي تصميم مشروع ثقافي له بالضرورة تداعياته السياسية والتنموية.
ومن ثم دفع الفقراء نحو «فسحة الأمل». وذلك فعليا لن يكون نتاج خطاب ثقافي صرف مهما كانت شحنته الأخلاقية. ولكن الأمر يستدعي بالضرورة خلق نشاطات منتجة للفقراء تحسن من أحوالهم المعيشية.
المؤلف في سطور
أرجون أبادوراي.. باحث هندي معروف متخصص في القضايا الاجتماعية – الثقافية المعاصرة. عمل سابقا كنائب رئيس للشؤون الأكاديمية في «المدرسة الجديدة – نيوسكول» في نيويورك. درس في العديد من الجامعات الأميركية والأوروبية. لديه مؤلفات ودراسات متنوعة منها: الحداثة الشاملة: الأبعاد الثقافية للعولمة.
الكتاب: المستقبل كواقع ثقافي-تأليف: أرجون أبادوراي-
الناشر: فيرسو بوك – نيويورك 2013 – الصفحات: 336 صفحة-القطع: المتوسط.