ماذا لو نتنازل للجنوب¿

جمال حسن


 - 

ما لم نفهمه بالثورة في اليمن أنها أعادت إنتاج نفسها كرد فعل لاستعادة مراكز النفوذ التقليدية ترتيب تواجدها في الحكم. فالفعل الثوري يتشكل في تداعيات السلطة

ما لم نفهمه بالثورة في اليمن أنها أعادت إنتاج نفسها كرد فعل لاستعادة مراكز النفوذ التقليدية ترتيب تواجدها في الحكم. فالفعل الثوري يتشكل في تداعيات السلطة وضعف الدولة. فعندما يسقط الشعار الكبير للثورة أي الوطني تحل مكانه شعارات صغيرة ضد مفهوم الهيمنة السياسية التقليدية في اليمن وهذا ما تحاول أن تستثمره تلك القوى في ادعاء خطاب الوحدة.
تكمن مشكلة اليمن في نخبها وهي نخب دائما تقوض الخطاب الوطني بارتباطاتها. بعد الثورة لم تستوعب مراكز القوى التقليدية التغيرات وغير مستعدة لتقديم أي تنازلات بل على العكس تحاول توسيع امتيازاتها. فالبعض يعتقد انه الوريث لامتيازات كانت تخص الرئيس السابق. وهذا الوعي المضمر للواقع ينطبق على قضية الجنوب. فهذه القوى نفسها مازالت تتعامل مع الجنوب بنفس الوعي السابق. مع ذلك لا تعي أن تزمتها سيرتد سلبيا على مصالحها القائمة سواء في الجنوب أو الشمال.
نفس الشيء حدث مع البلاط الفرنسي قبل حدوث الثورة الفرنسية فتزمت الطبقة الحاكمة والنبلاء ساعد على تسريع حدوث الثورة بينما البلاط البريطاني الذي بدأ يقدم تنازلات استطاع أن ينجو من غبار الربيع الأوروبي. هذا ما حدث لعلي صالح حين لم يدرك أن نظامه بدأ يتهلهل وأن الاضطرابات في الجنوب وحروب صعدة كانت تأكيد لتداعيات حكمه. مع ذلك مشكلة الجماعات الحاكمة في عدم قدرتها على إدراك الواقع بحكم عاداتها السلبية في البلاط. فبعد الثورة أتذكر أحد المشائخ وبارونات المال تحدث باعتباره صانع الثورة. مثل هذا التوهم هو اكبر تجسيد على ما تعيش فيه تلك البارونات من تخبط سياسي. فبدلا من اعترافها بأن الواقع السياسي بحاجة إلى قيم جديدة أرادت أن تعيد شكل امتيازاتها بكل رعونة وبدأت تستعين برجالها في التعيينات بصرف النظر عن كفاءتهم. مع أن تلك القوى كانت تستطيع بما حققته من مصالح هائلة أن تشكل نفسها في أي منظومة تتبع قوانين حديثة.
لكن عدم استيعاب مراكز القوى التقليدية للتغيرات سيسرع من تداعيات حدثت في البدء لنظام صالح وفي الوقت الذي ستريد تقديم تنازلات سيكون قطار المطالب قد تجاوزها. ربما تجد نفسها قادرة على فرض منطق القوة أو السلاح لكنه اليوم في اليمن يؤكد انه عديم الجدوى. بل إن الميليشيات المتناثرة لن تنتج أكثر من حرائق ستطال امراء الحرب. فالقوى التقليدية النافذة أعادت تنظيم نفسها في الحكم وكأن التغيير اشترط إزاحة علي صالح وعائلته من مركز القرار بينما اعتقد الطرف الذي ظل شريكا في الحكم انه الوريث الشرعي واللحظة مواتية لتكريس هيمنته. فعندما كانت هناك إرادة تغيير ظهرت قوى العمى من الركود وحاولت استعادة الوضع كما هو عليه وفي استبدال نفس الشروط السابقة وإن بطريقة أكثر فجاجة. أي أن التغيير لم يشترط في بنية الدولة وشكل قرارها ولا في توزيع القرار السياسي وإعادة تنظيمه بصورة تتعاطى مع التغيرات وهذا ما جعل شرط الثورة مغيب.
الجنوب مشكلة رئيسية في الأزمة اليمنية إذا لم نسع لحلها بطريقة واقعية فإن تفاقمها سيؤدي للانفصال. واليوم مشكلة النخب السياسية تحاول أن ترمي أخطاءها في اتهامات لطرف سياسي. الإصلاح يريد أن يعيد إنتاج مشكلة صالح أو كما قال أحد أصدقائي أن اليمني بدلا من الاعتراف بالمشكلة أو خطأه يحاول أن يهرب إلى اتهام طرف سياسي أو تصور عدو يمكنه التغلب عليه.
ما يحدث اليوم هناك تسريع لتداعيات كانت حاضرة ومتفشية في عهد صالح. بل هي إنتاج حكم متبلد بكل أشكال الفساد الرعناء.
عندما نقرأ حول صعود الاقتصاد الأميركي كان للفساد شوط هائل فيه لكن عصابات المال الأميركية كانت تميل إلى ابتكار قيم اقتصادية تتماشى وصعود البرجوازية وكل أفكارها الثورية في الإنتاج. بينما عصابات الفساد اليمنية كانت مستوحشة وتميل لتكديس أسوار رعناء من إقطاعيات منهوبة. فهل يمكن أن نقارن بين بلد متخم بكل أشكال السحر المتفجر لحالمي الثروة وبين بلد منهك ومثقل بتبلد نخبه. فما أنتجه حكم صالح في الجنوب كان شكلا من العجز الاقتصادي عندما ذهبت بارونات المال والإقطاع تهيمن على كل شيء وتستثير الضغينة دون حتى أن يمثل فسادها قيم إنتاجية بل تكديس إقطاعي ومال.
وعندما نتحدث عن قضية الوحدة فعلينا أولا أن لا نبحث عنها في الجنوب بل في الشمال. اقصد تلك القوى التي تعتقد أن الوحدة هي دائرة امتيازاتها.

قد يعجبك ايضا