الجنوب حين يكون جريحا
جمال حسن
لا يقتصر الجنوب كمعنى على الاتجاه فقط بل كذلك يتجاوزه إلى هوية اقتصادية ومعرفية الجنوب الفقير والمتخلف في المقابل هناك شمال غني ومتقدم. وبما أن الدول الأكثر تقدما تقع في شمال الكوكب الأرضي تجاوز دلالته اللغوية كإشارة للاتجاه فاليابان واستراليا وربما كوريا الجنوبية بوقوعها في أقصى الجنوب من الأرض يصيغهما هذا التعريف ضمن الشمال الغني. ولا يكتفي هذا التعريف بتخمة المال كما هي دول النفط إنما تعني تفوق في المعرفة والإنتاج. فالجنوب يتخذ أشكالا مجازية. ومفردات اللغة ليست أكثر من رموز وإشارات لا معنى لها خارج تصوراتنا. ويرى الجاحظ أن المعاني قائمة في “صدور الناس المتصورة في أذهانهم” وأن تلك المعاني يحييها “ذكرهم لها وإخبارهم عنها” وهو ما يقربها كما يقول من الفهم. واليمن تعني الجنوب تصور مبدئي للأرض الواقعة في جنوب الجزيرة العربية لكنها تجاوزت الاتجاه في صراعاتها الداخلية كممالك ثم في شكل الهجرات الكبيرة أعادت تشكيل الوطن كشكل للحنين عندما تكون هناك هجرة تتسع اليمن كوطن لكنها تنكمش في الداخل كانقسامات لا تتخلى عن عصبويتها. هذه السمات المتفاوتة لليمن أيضا انتجت فرادتها عبر التاريخ فرادة تصادمت فيها الاتجاهات مع مفهوم الوطن المشترك.
في تقدير معظمنا أن الجنوب اليمني أو العربي كما يحب البعض تسميته إطار انفصالي بحت إشارة لوطن سيتم انتزاعه من اليمن بالنسبة لي على العكس هو محاولة لإعادة تعريف هذا المسمى إرادة أن يحتفظ البعض بوطن لا يسعه في شكله الكبير. ذلك ما يجعل بعض الشعارات تقسو على إرادة المسميات فتحتكر لنفسها تصورا مستبدا يجبر تحولا ما أن يكون نزوعا فاشيا. سأعود لتكرار ما قاله الروائي سلمان رشدي في رواية العار وهو يتحدث عن الهند عندما يهرب الأفراد من وطنهم نسمي ذلك هجرة وعندما يكون الهروب جماعيا نسميه انفصالا. باكستان صيغة إسلامية للهروب من الهند المتعددة. مع ذلك لماذا يكون هناك هروب جماعي فيغدو انفصالا¿ كتابات بدأت تظهر تطالب الانفصاليين في الجنوب بالاعتذار وأحيانا يأخذ التعميم شمولا باستخدامه الجنوبيين أي تحميل هذا العبء طرف في الجنوب. وإعادة تعريف المشهد بما يستهوي مراكز قوى تريد احتكار خطاب الوحدة لمصلحتها. لكن ماذا تعني الوحدة إن أخذت مجرى قسريا.
في الحرب الأهلية الأمريكية احتكر الشمال خطاب الوحدة ضد الجنوب الانفصالي مع ذلك عندما انتهت الحرب كان هناك إعادة توزيع لخطاب الوحدة مجددا بين الشمال والجنوب بمصالحة وطنية. لذا لم يعد ذلك النزوع يشكل هما وطنيا بالنسبة لبلد مازال حديث التشكل قياسا بهويات وطنية أقدم. في الحروب تترسخ المصالح بصورة أعمق وهو ما انتجته حرب صيف 94 لكن مراكز القوى أصرت على احتكار خطاب الوحدة لتغطية فسادها واستحواذها على مصالح في الجنوب من ممتلكات عامة أو عقارات واسعة. في دول كثيرة هناك هويات جهوية في ايطاليا هناك شمال صناعي غني وجنوب زراعي فقير. إيطاليا محملة بتاريخ انقساماتها كإمارات لكنها لا تهدد الوحدة الإيطالية اليوم. علينا تفهم النزعات الانقسامية فتاريخ الدولة في اليمن محصور جدا. ياسين سعيد نعمان تحدث ذات مرة قائلا إن تاريخ الدولة في الجنوب عمره 23 عاما وعندما تكون هناك قضية في الجنوب فمعنى ذلك هناك فشل في تعريف الوحدة. لماذا يحاول طرف أن يفرض نفسه كوصي عليها. وعندما يتحدث كتاب مطالبين الانفصاليين بالاعتذار بينما مراكز القوى التي انتهكت قيم الوحدة منذ صيف 94 معفية من أي اعتذار. ربما البعض قدم اعتذاره لكن هل يكفي اعتذار لفظي أم مصافحة حقيقية يقدم فيها المستفيدون ما انتزعوه عنوة.
مازالت مراكز القوى تمارس نفس دور الوصايا على خطاب الوحدة بينما الفرصة اليوم أن نعيد توزيع هذا الخطاب علينا جميعا كشمال وجنوب. حتى إذا كانت هناك أصوات تدعو للانفصال فلديها مبرراتها. أحدهم قال إن البعض مستاء من الفيدراليين أكثر من الانفصاليين. بعد الثورة الفرنسية كانت أكبر جريمة يعاقب عليها اليعاقبة خصومهم تهمة الفيدرالية. حتى لا نخسر الجنوب علينا الإقلاع عن استفزازهم بأن نطلب اعتذار أصوات شاحبة بينما نترك غول الفساد المطمئن على أملاكه. وحدها قضية الجنوب القادرة على إعادة تفتيت مراكز القوى. حتى عندما ننزعج من فيدرالية من شمال وجنوب فليس هناك فرصة أخرى أمام تعنت مراكز لا تريد تقديم أي تنازلات بل تلهث لتوسيع امتيازاتها.
لذا حين نفكر بالانفصال علينا أولا البحث عنه في تلك المراكز التي ترى في الوحدة حجم مصالحها. حتى لا نسلم الجنوب لأكثر الأطراف تطرفا لنتعامل معه كشركاء معا. مؤخ