ماركيز وعوالمه المتعددة !!
سامي عــــطا ■

عندما تلج عالم غابرييل جارسيا ماركيز فأنت تدخل عوالم متعددة إنها عوالم ثرية سواء من حيث اللغة أو فنتازيا توظيف الأساطير والحكاوي الشعبية تجد التاريخ حاضرا والتراث يقف على أبواب عوالم ماركيز.
من يقرأ ماركيز فإنه يعيش مع أبطال روايته التي تتحدى الواقع وطموحاتهم في إعادة صياغة الواقع وفق شروط تقررها إرادات مستنفرة ومستفزة وتعيش الثورة الدائمة.
إن من يدخل إلى عالم ماكيز من خلال روايته مئة عام من العزلة تلك الرواية التي يحاول أن يوظف فيها الأسطورة ممزوجة بالفنتازيا وتستلهم التراث الثقافي للهنود الحمر.. يجد نفسه أمام ملحمة روائية أشبه بملحمة الأوديسا, إنها أوديسا عصرية بكل امتياز, أوديسا من حيث بناءها الحكائي وعصرية من حيث أدواتها ولغتها وصورها الأدبية.. قرأتها مرات ومرات وفي فترات متباعدة وفي كل مرة أكتشف عالما جديدا من عوالمه المتعددة وقرأت له الحب في زمن الكوليرا ولا يوجد لصوص في حيينا وساعة نحس, وقرأت له مؤخرا روايته “عشت لأروي” إنها رواية يقدم من خلالها سيرته الذاتية سيرة كفاح وتحدي, يروى من خلالها قصة صراعه وتقلبات المستوى المعيشي لأسرته الذي نزل هبوطا من المستوى المتوسط إلى مستوى الفقر ثم العوز, وهي في جلها سيرة كفاحه الفردي كي يكون كاتبا, الهدف الذي وضعه نصب عينيه خلافا لرغبة أبويه, حيث كانت المسألة في نظرهما بسيطة ” بما أنه ليس هناك أي إمكانية لأن أكون الطبيب اللامع الذي لم يستطع أبي أن يصير إليه, بسبب شح الموارد , فإنهما يحلمان على الأقل , بأن أكون خريجا جامعيا في أي شيء أخر” لكنه أصر وبعناد ” لن أكون شيئا , إنني أرفض أن تجعلوا مني , بالإكراه, ما لا أريد أن أكونه, وأرفض أن أكون مثلما تريدون أنتم أن أكون, وأقل من ذلك , مثلما تريد الحكومة”( ص334). إنها قصة تمرده الذي يرفض فيه أن يكره على عمل شيء ليس مقتنعا به. ومن خلال سيرته الذاتية هذه” عشت لأروي” يقدم سيرة تطور الصحافة والحياة الثقافية والأدبية في بلده كولومبيا.
ولا أدري لماذا كلما كنت أتوغل في قرأة الرواية التي تقرب صفحاتها من 700 صفحة من القطاع المتوسط, تأخذني أحداثها صوب رواية الأيام لعميد الأدب العربي طه حسين, فالروايتان تتقاطعان من حيث كونهما روايتان في السيرة الذاتية تصوران صراع الإرادة مع الواقع تجسيدا للتبرير الهيجيلي لصراع البشر باعتباره في أحد أوجهه صراع من أجل الاعتراف, روايتان تجسدان إرادة بلغت أعلى مستويات إصرار وعزم الذات على بلوغ غايتها المتمثل ببلوغ القمة. ولكنهما تختلفان من حيث الوسائل, في حين أختط طه حسين طريق العلم وبلوغ أعلى مراتبه رغم الإعاقة ” ضرير” بينما ماركيز تمرد على العلم والحصول على شهادة جامعية كما أراد له والديه, ووقر نفسه على أن يبلغ أعلى مراتب الأبداع عبر تعلم فنون الكتابة من خلال اكتسابها بالتعلم الذاتي والتعلم من الروائيين السابقين, وقد بلغ أعلى مراتبها من خلال عمله في الصحافة والتحقيقات الصحفية, ولقد قدم مركيز درسه المأثرة , وأراد أن يقول لنا أن الأبداع له طرق ودهاليز أخرى ويمكن بلوغه بالعزم والإصرار, ويستحيل بلوغ المجد بالموهبة وحدها, لأنها تحتاج إلى عزيمة وإرادة فولاذية.
وما من مجد يتم بلوغه من دون استلهام مجد سابق, كما أنه أراد أن يقول لنا أن أي هدف يمكن بلوغه بالإصرار والعزيمة ويستحيل للفقر أن يحول دون تحقيقه ” وأنا أدرك اليوم أن مظهري كمتسول , لم يكن بسبب فقري أو لكوني شاعرا, وإنما لأن طاقاتي كانت مركزة بعمق , على الإصرار على تعلم الكتابة”( ص529) ويبدو أن إعجابه بعدد من الروائيين ولعل أبرزهم الروائي الأمريكي وليم فوكنر الحاصل على جائزة نوبل عن روايته الصخب والعنف كان له قدوة حسنة ونموذج طيب يحتذى به وأثر كبير في مسيرته الأدبية, إذ أن هناك تشابها بينهما, فلقد كان فوكنر شاعر متسكع عاش فترة من حياته حياة التشرد والفقر.
يتميز اسلوب ماركيز الحكائي, بأنه حشد مكثف للأحداث والصور والوقائع, تأتي مرصوصة بعناية فائقة, وفي نسق بنائي متناغم, وتأتي روايات ماركيز مكثفة بالموضوعات التي تطرقها والقضايا التي تلامسها, وبالرغم من كثافة الأحداث والوقائع التي يسردها ماركيز إلا أن براعته الأدبية وامتلاكه ناصية هذا الفن الأدبي الرواية, يعطيه قدرات عجيبة علىأن ينقل الأحداث والوقائع بسلاسة وترابط عجيب , أحيانا يعرض حدثين لا يوجد بينهما أي رابط زمني, لكنه يظل ممسكا بخيط الزمن ولا يفلت منه, إلا أن ما يميز روايات ماركيز أن كلما قرأت الرواية مرة اخرى تفتح لك عوالم جديدة ومعاني ودلالات جديدة لم تصل إليها في قرأتك السابقة, ولعل صعوبة رواياته تأتي من كثافة شخوصها الأمر الذي يجعل القارئ يتمهل في قرأتها كي يستطيع فهم دلالاتها الغنية. أو بمعنى أدق أن كل رواية من روايات ماركيز روايات متعددة.
أن روا