المثقفون العرب والاستشراق : القراءة وإساءة القراءة
هشام علي
هشام علي –
وفي رأي صادق العظم فإن إدوارد سعيد لم يقم باستخلاص جميع النتائج التاريخية المترتبة على مقدماته فهو يتخلى عنها ليسلك طريقا آخر يتعارض معها وأول هذه التراجعات هو فك الارتباط التاريخي بين الاستشراق والطبقة البرجوازية الصاعدة في عصر النهضة وإرجاع أصول الاستشراق وبداياته “عبر إسقاط تاريخي هائل إلى الخلف إلى هوميروس واسخيلوس ويوربيديس ودانتي بدلا من عصر النهضة” أي أن ما بدا لنا أول الأمر ظاهرة أوروبية حديثة حقا في بداياتها وتطوراتها ليست كذلك على الإطلاق بل ترجع إلى أصول سحيقة وعميقة في التاريخ الأوروبي والغربي.
ويرى د/ العظم “أن النتيجة المنطقية لهذا الاتجاه في تفسير ظاهرة الاستشراق هي العودة بنا من الباب الخلفي إلى أسطورة الطبائع الثابتة – التي يريد إدوارد سعيد تدميرها – بخصائصها الجوهرية التي لا تحول ولا تزول إلى ميتافيزيقيا الاستشراق (التي كتب إدوارد كتابه ليفضحها ويجهز عليها) ويصف العظم جهد إدوارد سعيد الفكري تبعا لذلك بـ”الاستشراق المعكوس”(9).
وينبع الخلاف بين صادق العظم وإدوارد سعيد في الاستنتاجات رغم اتفاقهما في التحليل الأولي إلى طبيعة تحليل وقراءة العلاقة بين الاستشراق وظهور البرجوازية والاستعمار الأوروبي فصادق العظم يكتفي بتحديد الاستشراق كمؤسسة أكاديمية ظهرت في أواخر القرن الثامن عشر وكانت تمثل القوة المادية التي تحرك الوعي الغربي نحو الشرق وهو يستند في هذا التحليل إلى مقولة ماركس الأساسية القائلة بأن الوجود المادي يحدد الفكر وليس العكس على نحو ما فعل إدوارد سعيد “حيث جعل من هذا الاستشراق المصدر الذي نبعت منه المؤسسة والأساس الذي لابد من إرجاعها إليه وهكذا بات المعرفي والثقافي يحدد السياسي لا العكس وأصبح الاستشراق الثقافي – عبر تاريخه الطويل – هو المصدر الحقيقي للاهتمام السياسي اللاحق الذي أخذت تبديه أوروبا ومنبع الاهتمام الأمريكي اللاحق بالشرق”(10).
ويتعرض صادق العظم للقسوة التي تناول بها إدوارد سعيد محاولات كارل ماركس النظرية لفهم المجتمعات الأسيوية وإدراجه على لائحة الرموز الاستشراقية السوداء بأخذ إدوارد سعيد على كارل ماركس ما كتبه حول الاستعمار الإنجليزي للهند وتحليلاته للمجتمع الآسيوي حيث يستخدم سعيد مصطلحات مثل: “الشرق المتخلف” “الاستبداد الشرقي” ” نمط الإنتاج الأسيوي” وهي مفاهيم لا تنطبق إلا على الشرق.
وفي رأي سعيد أن هذه التحليلات التاريخية والاقتصادية التي قدمها ماركس حول أسيا إنما تتوافق مع فكر الاستشراق وتعبöر عن قدرة الجهاز الاستشراقي وتعريفاته القاموسية على سحق تفرد التجربة الإنسانية عند المفكر الفرد (وإن كان هذا الفرد بحجم ماركس).
ويتخذ صادق العظم من نقد سعيد لاستشراق ماركس نموذجا على عيوب تكوين سعيد الثقافي الذاتي وفساد أدواته المعرفية وهو يفسر تعاطف إدوارد سعيد مع ماسينيون وتحامله على ماركس بعاملين:
ذاتي: يتبدى في ارتياحه لتأويلات ماسينيون الصوفية.
ومنهجي: يتمثل في اعتماد سعيد أدوات الذاتية النسبية المعرفية.
ويعتقد د/ العظم “أن الصورة التي رسمها إدوارد لوجهات نظر ماركس حول الشرق ولمحاولاته تفسير الصيرورات التاريخية المعقدة التي أخذت مجتمعاته وثقافاته تخضع لها ليس إلا” ولا شك أن ماركس – كغيره من كبار المفكرين والعلماء والمنظرين – خضع لتأثيرات عصره بعلومه النموذجية وأفكاره الرئيسية وتجاربه الكبرى وأحكامه العامة وتعميماته الشاملة وتجريداته السائدة وصياغاته اللغوية المفضلة لكن الإقرار بهذه الحقيقة شبه البديهية شيئ والقول مع إدوارد بأن تجريدات أحد علوم عصره (الاستشراق) وعقائده وفرضياته وتعميماته وصياغاته اللغوية قد اغتصبت عقل ماركس واستبدت به فمنعته من رؤية كل حقيقة عن الشرق وقضت على تعاطفه الإنساني الأولي مع جماهيره البائسة هو شيئ آخر تماما – كما يبدو لي أحيانا – وإن كان افتتان إدوارد الواضح بكل ما يمت بصلة إلى اللغة والعبارة والخطاب والتجريد الخ… يشكل دعوة لنا للرجوع إلى طور الإيمان بالفاعلية السحرية للكلمات”(11).
ولعل الخطيئة التي ارتكبها إدوارد سعيد في رأي د/ صادق العظم هي ربطه بين ماركس وخطاب الاستشراق ومحاولته التأكيد في أربع صفحات فقط من كتاب الاستشراق على أن مفكرا أوروبيا كبيرا بحجم كارل ماركس لم يكن خارج تأثير شبكة الخطاب الاستشراقي وتحليلاته.
إن جرأة إدوارد سعيد على قول هذا الرأي تبدو من القوة والحدة