الربيع العربي وإشكالية العدالة

الحسين الزاوي

الحسين الزاوي –
إن التغيير لا يمكن أن يعد هدفا في حد ذاته فالشباب العربي الذي ثار على الظلم والطغيان كان هدفه الأساسي هو أن يحقق العدل بعد أن غابت المساواة وضاعت الحقوق وأصبح الإنصاف حلما مبهما يعبر ذاكرة الأجيال دون أن يجد طريقه إلى التجسيد على أرض الواقع . فقد مرت عقود كثيرة ظن فيها المواطن أن العدل الذي يداعب مخيلته لا يمكن أن يتحقق إلا في عالم الأموات هناك حيث يتساوى الجميع وتفقد القوة الغاشملة كل قدرة على التأثير أو العبث بمصير البلاد والعباد وأرزاقهما .
لا شك أن العدالة تمثل أكثر الرموز قدرة على تحريك عواطف الناس وعلى إثارة فضولهم واهتمامهم من منطلق أنها تتسم بالندرة الشديدة وغالبا ما تمثل الاستثناء في ظل قاعدة بشرية مهيمنة يميزها الحيف والظلم والاستهتار بمصالح الغير وحقوقهم فهي تتلمس طريقها نحو عالم البشر في محيط مملوء بالألغام والأشواك ولا تصل إلى محطتها الأخيرة إلا بعد أن تكون قد فقدت الكثير من عناصر قوتها ومكونات هويتها التي جعلتها تظل دوما شيئا محبوبا لذاته وفي ذاته .
والحديث عن العدالة في زمن الربيع العربي يدفعنا إلى التساؤل عن معانيها ودلالاتها عند من يعلقون آمالا كبيرة على هذا الحراك الشعبي من أجل وضع حد لهذا الإحساس الضاغط بالظلم وغياب المساواة وينسون أن العدالة تمثل من حيث ماهيتها وأصولها صرحا ينتظر البناء والتشييد وليست مجرد قيم جاهزة يمكن تطبيقها عندما تدعو الحاجة وفضلا عن ذلك فإنها ليست مفهوما دقيقا وشفافا يتضمن مبادئ واضحة ومتعارفا عليها في كل الثقافات . لأن العدالة التي لا تقترن بالإنصاف لا تحقق في الغالب الهدف المرجو منها لاسيما أن الإنصاف هو جزء من العدالة الطبيعية منظورا إليها بشكل مستقل عن القانون المطبق أو الساري المفعول فقد يحقق القانون العدالة لكنه لن يكون بالضرورة منصفا .
لقد تمكنت المقاربات الفكرية والفلسفية المعاصرة من تغيير الكثير من معاني العدالة كما كانت متداولة في صيغتها التقليدية بعد أن استطاع روسو أن يوضح في كتابه “خطاب حول أصل وأسس اللامساواة ما بين البشر” كيف أن أشكال التقدم التقني ممثلة في التحكم في الزراعة تطور الحياة في المدينة وانتشار التخصصات في مجال الحرف والمهن . . إلخ ضاعفت من حالات عدم المساواة في الشروط وتضاعف معها العنف وعدم الإنصاف والإحساس بغياب العدل الذي يصاحب هذه التجليات . ويعد الإنسان بطبيعة الحال المسؤول المباشر عن هذا الخلل ولكنه لا يمكنه في المقابل إلا أن يعتمد على نفسه فقط من أجل إيجاد وصفات ملائمة تؤدي إلى إصلاح هذا الخلل وبذلك أصبحت العدالة البشرية التي يتم تعديلها وتطويرها باستمرار هي الحل الأساسي بالنسبة للمجتمعات المدنية المعاصرة بالرغم من إيمانها بفضائل العناية الإلهية ومزاياها حيث أضحى للعدالة في صورتها الحديثة سيد وحاكم جديد هو: الشعب الأمة أو لنقل الإنسانية برمتها .
وبالرغم من كل ذلك فإن المعاني التقليدية لمفهوم العدالة التي ترسخت في الحقبة اليونانية مازالت تحكم جل تصوراتنا حول العدالة من منطلق أن المساواة يجب أن تتحقق بين أشخاص متساوين في وضعياتهم وإلا أفضت العدالة إلى تحقيق سعادة البعض على حساب البعض الآخر . وقد سبق للخطيب الروماني شيشرون أن أشار في أكثر من مقطع من نصوصه إلى أن العدالة المعتمöدة على النسبة تحقق الإنصاف . والإنصاف هو الذي يمنح حقوقا متماثلة عندما تكون هناك وضعيات متماثلة لأن العدالة تعني إعطاء كل واحد ما يستحقه أو ما يعود له . خاصة أن الإنصاف يتعلق بروح القانون وليس بنصه فقط الأمر الذي يجعله يأخذ في الحسبان الوضعيات المختلفة للأفراد .
من الواضح بناء على ما تقدم أن البشرية حاولت منذ فجر تاريخها أن تبحث عن تحقيق نوع من التوازن بين المستويات المتعددة للعدالة سواء ما تعلق منها بتطلعاتنا الحدسية والفطرية أو ما اتصل منها برؤانا وأفكارنا التي صقلتها تجاربنا . لذلك فقد أكد الفيلسوف الأمريكي جون راولز أن نظرية العدالة برمتها هي سعي من أجل تحقيق “توازن متعقل” ومفكر فيه بشكل دقيق ما بين المبادئ المؤسسة على العقل من جهة وإحساسنا الطبيعي والحدسي بالعدالة من جهة أخرى .
وعليه فإن العدالة التي يصبو الشباب الثائر إلى تحقيقها لا يمكن أن تظل رهينة لوعود السياسيين ومرتبطة بمدى حسن نياتهم وصفاء سرائرهم فالعدالة في حاجة إلى قواعد إجرائية صارمة تخضع لها كل مكونات المجتمع وتضمن تطبيقها دولة مدنية قوية تعامل الجميع على قدر كفاءتهم واستحقاقهم بصرف النظر عن أفكارهم وتوجهاتهم الأيديولوجية . ومن ثمة فإن أكبر خطر يهدد مبادئ العدالة بالنسبة للشباب العربي هو أن تتحول العدالة نفسها إلى ساحة للمزايدة السياسية بين المتنافسين على السلطة فتضيع عندما يوعد المواطن بأشياء يصعب تحقيقها وتفقد مؤسسات الدولة صدقها . ولعل الشاعر العربي لم يكن مخطئا

قد يعجبك ايضا