شعرية الاستبصار

عبد الرقيب مرزاح

 - إن الشعر فعل لغوي أولا  وشعريته قائمة على الكيفيات المستخدمة في صياغته وقد يبدع الشاعر بأكثر من كيفية يستطيع معها أن يفيد من عصره كما لا يمكنه الانقطاع عن الماضي الثقافي له إذ إنه ليس في مقدوره اختراع اللغة كما لا يمكنه الاستغناء عنها والشاعر الذي ينسجم مع هذه اللغة ويفهم مدلولاتها فإنه -لا ريب-
عبد الرقيب مرزاح –
إن الشعر فعل لغوي أولا وشعريته قائمة على الكيفيات المستخدمة في صياغته وقد يبدع الشاعر بأكثر من كيفية يستطيع معها أن يفيد من عصره كما لا يمكنه الانقطاع عن الماضي الثقافي له إذ إنه ليس في مقدوره اختراع اللغة كما لا يمكنه الاستغناء عنها والشاعر الذي ينسجم مع هذه اللغة ويفهم مدلولاتها فإنه -لا ريب- سيجد نفسه مرغما على التعامل معها والأخذ منها حيث تبوأت في ذاكرته وكونت لديه مرجعية ثقافية معينة أصبحت تشكل جزءا كبيرا من بنيته الفكرية ولعل هذه التوطئة تنسجم إلى حد بعيد مع طبيعة الشاعر / الصوت الفكري.
وعند الحديث عن شعراء هذا المستوى فإني أجد بغيتي كلما اقتربت من عوالم نصوص الشاعر / عبد الله حمود الفقيه .
وهو– بالنسبة لي – شاعر إشكالي لا يرضى أن يخرج من تحت عباءة أحد من الشعراء ولا يرتضي لنفسه الزحام بل يعكف جاهدا للإخلاص على نصه الشعري لأنه يثق أن المستقبل سيكون له ولأمثاله من الشعراء الذين نذروا حياتهم للشعر غير أنه للأسف لم يصدر بعد أية مجموعة شعرية تمكنه من الحضور في قلوب محبيه وجمهوره الشعري ولعل هذا ما يجعلني أقف اليوم عند قصيدة واحدة من قصائده وهي قصيدة «همزات الشياطين» ولعل القارئ سيلمس حذر الشاعر في استخدام اللغة فمغامراتها وجمالياتها قد انحصرت لدى الشاعر في التوصيل والتعبير أي أن لغة الشعر في القصيدة مشتقة من لغة الحياة ولعل هذا يفسر الموقف الفكري للشاعر ويؤكد حرصه على» الصدق» فنيا وفكريا وفكرة النص كما تجلوها البنى المتداخلة (على المستوى السطحي والعميق) تقوم على استبصار المستقبل ولعل استبصار الشاعر هنا ينصرف إلى الناحية الشريرة من الحياة إلى الحياة المظلمة التي لا يدخلها شعاع التفاؤل ولا تعبرها أنسام الأمل إذ يبدأ الشاعر قصيدته بهاء التنبيه ليلفت انتباه القارئ إلى طبيعة ما سيبوح به وهاء التنبيه هنا تؤكد أهمية بوحه متضافرة مع حرف التحقيق «قد» ليعلن عن بداية القصيدة بحدث مهم. يستعين الشاعر باللغة السردية كونها أكثر مرونة من الدفقة الشعورية وأكثر قدرة على استيعاب فكرة الاستبصار/ مهاد النص .
يسعى الشاعر إلى توظيف تقنيات عدة تعينه على جلاء استبصاره ويقصد بالاستبصار» النظر إلى الوضع بوصفه كلا وتبين العلاقات في هذا الكل وإدراك الروابط بين الوسائل والهدف من دون استخدام سلوك المحاولة والخطأ» على نحو ظاهر تبدأ رحلة اللارجوع وهي بالمناسبة كناية هنا عن الضياع المرتقب بعد مناورة بسيطة يعمد إليها الشاعر عند مفتتح النص يقول الشاعر:
وها قد بدأتö …
بدأت …
بدأنا …
رحلة اللا رجوعú
لم يعدú يستظل بأفيائنا قمر
لم تعدú تستقي الضوء أحلامنا
غادرتúنا النوارس والأغنيات
يظهر في هذا المقطع شيوع الفعل الماضي ( بدأت بدأت بدأنا ) وعند مجيء الأفعال المضارعة فإنها لا تظل عند مستوى الدلالة التي ينتجها الفعل الماضي وذلك بسبب تقدم (لم)/ الجازمة التي تعمل على قلب دلالة الفعل المضارع من الحركة إلى الثبات والسكون وهي الدلالة التي تتراسل دلاليا مع فعل مغادرة النوارس والأغنيات / وارتحال المحبوب صوب خضرة الجبال المزيفة وزرقة المياه الكئيبة الكاذبة.
وإذا كان البياض / البتر في ذاته نوعا من قطع الموصول وتأكيدا عليه فإن تكرار المنحى المعبر عنه بتكرار البياض / البتر ثانية ليؤكد على حذف كلام لا تجرؤ الذات على قوله للآخر / المحبوب ويشي- هذا التكرار– في أساسه الإيقاعي برفض هذا القطع عن طريق إيقاع رغبة الشاعر في استعادة اتصاله بالآخر حين تبدو تلك الرغبة تارة بالصياح «وضöعúتö أخيرا» يبدو الشاعر هاهنا منفعلا وتأتي صيحته المدوية لتعكس درجة القوة في الانفعال بعبارة كافية لشحن السياق اللغوي بالكثير من المعاني الانفعالية والعاطفية ولعل التكرار -الذي يلجأ إليه- لا يقوم على مجرد تكرار اللفظة أو اللازمة الشعرية في السياق الشعري وإنما يتعمد ما تتركه هذه اللفظة من أثر انفعالي في نفس المتلقي وبذلك فإنه يعكس جانبا من الموقف النفسي والانفعالي ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد بل يتصاعد انفعال الشاعر من صياح إلى صراخ والصرخة: فعل صوتي مفاجئ وسريع وخاطف فماذا تفعل اللغة الشعرية حين تحاكي هذا الفعل الذي يعد مواجهة. في هذا السياق يتجلى اللعب على تكرار الصيغ الصرفية بقصد إعطائها دورا محسوسا في ترسيخ شكل الإيقاع الخاط

قد يعجبك ايضا