«الثورة» إذ تمتحن المجتمع والسلطة والدولة
عبد الإله بلقزيز:
عبد الإله بلقزيز: –
ثلاث قوى تعرضت لامتحان سياسي عسير خلال العام ونصف العام المنصرم في البلاد العربية امتحنتها “الثورات” والانتفاضات وحركات الاحتجاج الشعبي التي اندلعت واتسعت نطاقا تحت عنوان الحرية والديمقراطية. والقوى الثلاث هذه هي: المجتمع والنظام السياسي والدولة.
وإذا كانت قد تفاوتت في درجات الاستجابة والتكيف مع “نازلة” ذلك الامتحان فلأن ذلك يعود إلى تفاوت الضغوط التي وقعت عليها من جهة وإلى تفاوت درجة التماسك الذاتي في كل منها ودرجة الاستعداد للتأقلم مع المتغيرات من جهة ثانية.
امتحنت الأحداث المجتمع: قدرته على الحراك نفسه في المطالبة درجة التماسك الداخلي لقواه مستوى الاندماج الاجتماعي فيه مستوى الوعي السياسي للمتظاهرين مستوى التشبع بالقيم الديمقراطية السلمية لدى النخب والشعب درجة التفاعل بين الناس والمعارضات درجة استقلالية القرار الوطني لدى النخب والأحزاب المعارضة… إلخ.
ولم تكن نتائج الامتحان واحدة في البلدان العربية التي شهدت حركات احتجاجية كان منها من حافظ المجتمع فيه على مطالباته السلمية رافضا الانسياق وراء العنف ورافضا التجاوب مع الدعوات إليه من الداخل والخارج وكان منها من افتقر فيه المجتمع إلى القيم السلمية في النضال فانجر إلى العنف وفتح في وحدته الوطنية والأهلية جروحا غائرة قد لا تندمل بعد عشرات السنين.
وكان من هذه البلدان من أبدى المجتمع فيه قدرا ملحوظا من التماسك والاندماج فيما كان منها من فضحت الأحداث هشاشته وأخرجت عصبياته الانقسامية إلى السطح فأصبحت الطائفية والمذهبية والقبلية والعشائرية والإثنية حزبه ولغته وأفقه! ثم كان منها من حافظت معارضاته على قرارها المستقل وعلى وطنيتها الثابتة في المعركة من أجل الديمقراطية مثلما كان منها من وضعت معارضته يدها في يد الأجنبي لإسقاط نظامها.
وامتحنت الأحداث النظام السياسي: قوته الفعلية وتماسك قاعدته الاجتماعية والحزبية قدرته على التكيف مع الضغوط الداخلية درجة شرعيته الداخلية مستوى الاستعداد لديه للتنازل والتجاوب مع مطالب الإصلاح طبيعة علاقته بالمؤسسة العسكرية مفهومه للأمن وللوحدة الوطنية فرضية المؤامرة الخارجية في سياساته الداخلية نظرته إلى المعارضة وإلى المحتجين… إلخ.
ولم تكن نتائج الامتحان واحدة فلقد كان من الأنظمة ما تعنت وناور وتحايل فتزايد عليه الضغط الشعبي وخذلته أجهزته وحزبه وجمهوره ورفع عنه الجيش الغطاء فتنحى زعيمهم أو نحي أو لاذ بالفرار باحثا له عن ملجأ خارج الوطن.
ومن الأنظمة من حمل السلاح في وجه شعبه ومعارضيه وشتمهم بأقذع الشتائم ووفر بسلوكه الذرائع لغزو أجنبي أسقطه. ومن الأنظمة من ماطل وسوف وراوغ وكاد يفجر فتنة في الشعب والجيش ولم يسلم إلا بعد أن ضمن الحصانة لنفسه وبطانته ولحزبه فرصة أخرى للبقاء. ومن الأنظمة من تأخر في استجابة مطالب الإصلاح حتى استفحل الخطب وحين استجاب فعل ذلك بالتقسيط ولم يفعله بالجملة فلم تلبث المطالب أن تجاوزت سقف الإصلاح إلى ما هو أبعد ولم تلبث المظاهرات المدنية أن تحولت إلى مواجهات عسكرية وغرقت البلاد في الدماء من دون أن ينتصر أحد. ومن الأنظمة من أخمد انتفاضة شعبه منذ أيامها الأولى. ثم منها من كان حاذقا وذكيا فاستجاب للمطالب بأقل كلفة عليه وعلى الشعب.
كما امتحنت الأحداث الدولة والكيان في البلاد العربية التي حصلت فيها امتحنت درجة الرسوخ والانغراس اللذين للدولة في الكيان المجتمعي ودرجة التراكم في فعل الدولة ووظائفها ومستوى الجاهزية لديها للتدخل في لحظات الأزمة لإدارتها وحلها ومدى ما يتمتع به كيانها من تجريد ومن استقلال عن الانقسامات والنزاعات الأهلية ومدى ما تتمتع به من استقلال عن السلطة والنظام السياسي ومستوى كفاءة واستقلالية أجهزتها ومؤسساتها السيادية مثل الجيش والقضاء… إلخ.
ولعله باستثناء بلدين عربيين بدت فيهما الدولة متماسكة ومستفيدة من عراقتها التاريخية وتراكماتها فإن البواقي تعرضت للكثير من التصدع والشلل أو الانقسام على حدود الانقسام الأهلي بل إن بعضها مهدد بما هو أفدح من الشلل والتخبط والوهن الذي يلحظ فيه اليوم! ولم يعد هناك أسوأ من أن تصبح الحروب الأهلية واحدة من ظواهر الاجتماع السياسي بعد “الثورة” وفي خضمها! أو أن يصبح زوال الدولة والكيان من الاحتمالات غير المستبعدة!
ثلاثة امتحانات عسيرة مرت بها بلداننا منذ عام ونصف العام وكشفت عن هشاشة بناها المجتمعية والسلطوية والدولتية وضعف مناعتها في وجه التحديات غير أن المفارقة الأدعى إلى التفكير في هذا المعرض هي كيف يكون لـ”ثورة” أن تأتي على نسيج مجتمع بالتمزيق وأن تأتي على كيان دولة بالهدم فيما الثورة- لدى غيرنا من الشعوب والأمم وفي مجتمعات أخرى غير مجتمع