ويسألونك عن القات (2)
أ.د.عزيز ثابت سعيد
أ.د.عزيز ثابت سعيد –
كنت في مقالتي السابقة عن القات قد تحدثت عن ظاهرة تعاطيه التي تفشت في المجتمع بشكل مخيف وتعرضت لبعض الطقوس المرتبطة بمضغه وكيف أن البعض لا يمضغ القات بل يعتلفه أو يرتعيه فيخزن (بسكون الخاء) في فمه كمية مهولة تجعل من فمه «بجمته» بالونا غريبا أو إن شئت قل ورما مخيفا.
والواقع أن القات أصبح هما لدى معظم اليمنيين فحق القات (أي ثمنه) هي الدعوة التي ربما أطلقتها الكثير من حناجر اليمنيين في الصباح توسلا إلى الله عز وجل أن يسهلها وحق القات هي السبب الأول الذي لا سابق له في الفساد المالي وكذا الإداري وحق القات هي المتسبب في إطالة أمد القضايا في المحاكم وحق القات … وحق القات … وحق القات قصة طويلة يطول شرحها ويمكن أن تكون دراما تلفزيونية يمنية من مئات الحلقات تفوق في عددها عدد حلقات المسلسلات المكسيكية التي لا تنتهي أحداثها…
حتى حديثنا اليومي لا يكاد يخلو من الإشارة إلى القات وحتى إن كان اللقاء عابرا فللقات نصيب «أهلا وسهلا أين خزنتم أمس¿ أين ستخزنون اليوم¿ كيف القات في سوق كذا¿ … إلخ. وقد يقول قائل إن الأمر ليس جديدا فهذه حال اليمنيين منذ زمن بعيد وهذا صحيح فالقات متجذر في سلوكنا وموروثنا الثقافي من شعر ونثر وقصة وغناء شعبي وزوامل ومهاجل ومغارد… إلخ. فالبردوني – عليه رحمة الله- ذكره في شعره وفي أحاديثه الأدبية من ذلك ما ورد في قصيدته «بطاقة موظف متقاعد» حيث يقول:
فأشري بنصف ريال لحوما *** وقاتا وأرتاد عزرا شميل
وأمشي أتمتم بالحوقلات *** أدندن: ماذا الجفا يا غزيل¿
إذا فأنا وغيري نسلم – بمرارة وحسرة — بأن القات قد تغلغل في أنسجة المجتمع منذ زمن لكن ما آلت إليه الحال اليوم جراء كثرة تعاطيه هو فعلا أمر يدق نواقيس الخطر .. وليس ناقوسا واحدا. ولأن نسبة متعاطي القات في ازدياد مستمر فإن المساحة الجغرافية التي يزرع فيها القات في ازدياد أيضا فالبجم تتسع ومناطق زراعة القات تتسع أيضا وعلى حساب مزروعات أخرى .. فصنعاء مثلا كانت تشتهر بالكثير من المحاصيل والمزروعات ولعل العنب أبرزها لكن القات قد زاحمها وأصبحنا نشتري أحيانا عنبا أجنبيا وزبيبا إيرانيا! والمسافر من صنعاء إلى تعز ترعه مناظر النوب (جمع نوبة) المنتشرة على طول الطريق بين ذمار وإب فيخال نفسه وكأنه مسافر على خط تماس بين دولتين في حالة حرب فمتاريس أو محاريس القات أصبحت من فئة الطابقين والثلاثة وربما على أسطح بعضها رشاشات. وهناك مناطق خصبة في اليمن كانت سلالا للمحاصيل والفاكهة والبن والخضروات أصبحت «جربا» للقات. ومن مآ سي هذا التوسع المخيف استنزاف المخزون الجوفي للمياة فمن ملك «جربة» يستطيع أن يحفر بئرا ولا رادع أو مانع أو حتى ناصح!
والسؤال هو: هل نظل نراقب ما يحصل من تغوغل لهذه الشجرة ولا نحرك ساكنا¿ لم لا نسمع خطباء المساجد يفردون خطبا عن القات وتعاطيه¿ لم لا ينصح الناس حتى بالتخفيف من تعاطيه إن لم يجرؤ مشايخنا الأفاضل على النصح بتركه¿ لم لا تسن الدولة قوانين تجرم الحفر الفوضوي والعشوائي للآبارالذي حتما سيقود إلى جفاف ماحق في كثير من المناطق في المستقبل القريب¿ لم لا يتخذ فخامة الرئيس قرارا جريئا ومعه مجلس النواب (ولو أن معظم أعضائه موالعة) ينظم تعاطي القات كأن يخزن من أراد أن يخزن يومين مثلا كما كان الحال في المحافظات الجنوبية والشرقية قبل الوحدة¿ لم لا تنشر الدولة إحصائيات عن الأمراض الناتجة عن تعاطي القات¿ هذه كلها أسئلة لا بد من الإجابة عليها ولن يغفر الله ولا التاريخ لمن قصر في الدور المنوط به.
أذكر أني في 98 وجدت نفسي في مجلس يضم كوكبة من الساسة والمثقفين بينهم اثنان أو أكثر من المقربين من مطبخ صناعة القرارالسياسي في الدولة وكان الحديث عن الدوام الرسمي وإمكانية تمديد ساعاته حتى يخفف من تعاطي القات وأذكر أني من أولئك الذين رأوا أن يستمر الدوام حتى الساعة الرابعة شريطة أن يتخلل ذلك ساعة لوجبة غذاء خفيفة توفرها المؤسسة التي يعمل فيها الموظف ويستمر العمل حتى الرابعة حينها يجد الموظف نفسه وقد أنهى الجزء الأكبر من ساعات بعد الظهر في العمل وما إن يصل المنزل ليأكل ويرتاح قليلا حتى يحين وقت المغرب عندها فاجأني أحد الجالسين وكان من أنصاف المقربين من مطبخ القرار قائلا: «لا .. لا.. تمدد ساعات العمل إلى الثالثة فيخرج الموظف وي